استبشر الأمازيغ قاطبة خيرا بالتعديل الدستوري الأخير بالمغرب لفاتح يوليوز لسنة 2011 والذي أعطى حماية دستورية للغة الأمازيغية وإعاد الإعتبار لمكون لغوي ولسني مهم طالما تم تهميشه وإقصائه منذ استقلال المغرب ، وإعاد نوع من التوازن للشخصية الثقافية والفكرية والنفسية للأمازيغ ، هذا الاعتراف الدستوري باللغة الأمازيغية والذي يعتبر فريدا من نوعه في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط وأصبح المغرب متقدما على نظيره الجزائر في الاعتراف بالأمازيغية دستوريا رغم أسبقية الحركة الأمازيغية الجزائرية في إعلان ميلادها التاريخي ، فالمغرب هو البلد الوحيد في المنطقة المغاربية الذي تخلص من ترسبات الفكر الإقصائي المورث عن القومية العربية واستطاع ان يعترف بتعدد وغنى المكونات الثقافية التي تتعايش داخل كيانه الموحد.
هذا الاعتراف الدستوري المغربي لم يترجم - للأسف الشديد- إلى إجراءات ملموسة لتنزيل الدستور بشكل سليم وديموقراطي ليشمل رفع الحيف عن الامازيغية في كل مناحي الحياة في القضاء والاعلام والتعليم والادارة بصفة عامة ، وما يزال ترسيم الامازيغية حبيس فصل مضطرب في الدستور لم تعمل الحكومة لحد الان على تفعيله . فما هي ياترى معوقات التفعيل الدستوري للامازيغية ؟ ولماذا لم تتحمل الحكومة المغربية مسؤوليتها في انصاف الامازيغ بالمغرب ورفع الحيف عنهم رغم أن الناطقين بالامازيغية قيادات وازنة داخل الاحزاب الحكومية ؟ و هل كان ترسيم الامازيغية استجابة لضغوط خارجية وداخلية أكثر منه اقتناع سياسي داخلي بعدالة قضية الامازيغ بالمغرب وعندما خفت الضغوط انتهى كل شيء ؟ لماذا يستمر إقصاء الأمازيغ من دواليب السياسة والقرار الفعلي بالمغرب و يمارس الضغط على الرأسمال الأمازيغي اقتصاديا وضريبيا لثنيه عن الاعتراف بنفسه كرأسمال أمازيغي مهتم بالقضية الامازيغية ؟ لماذا تنتزع الثروات والاراضي من القبائل الأمازيغية لتعطى للشركات الكبرى دون حتى تعويض الساكنة المتضررة دون ان يتحرك البرلمان المغربي ذو الأغلبية الساحقة من الناطقين بالأمازيغية لوقف إهدار الممتلكات الطبيعية للساكنة الأمازيغية ؟ لماذا لم تفتح الدولة المغربية لحد الآن ملف المصالحة مع مناطق الريف ؟ هذه بعض الأسئلة الكبرى التي تنتظر إجابات فعلية من قبل الفاعل السياسي والمدني والمؤسساتي المغربي ، وهي في الحقيقة أسئلة ليست جديدة بل بعضها المتعلقة بإقصاء الامازيغ من السياسة والثروة متجددة و متوارثة عن الفترة الاستعمارية وما يزال نفس النهج متواصلا مع دولة الاستقلال.
جميع كتب التاريخ والجغرافيا تؤكد بشكل علمي أن المغرب بلد أمازيغي وشعبه الامازيغي تعرض لأكبر عملية سطو تاريخي وهوياتي على تاريخه وهويته وطوبونوميته ووجوده الحضاري ، وأصبح بقدرة قادر بلدا عربيا ينتمي إلى الأمة العربية ، وقد تواطأ بعض منظري ومثقفي الاستعمار الفرنسي مع بعض أنصار النخب القومية العربية في المغرب من اجل تزوير تاريخ المغرب بل التاريخ المغاربي ككل" وان كان بعض المؤرخين الاستعماريين لهم فضل كبير على إغناء البحث في الثقافة الأمازيغية خصوصا في المغرب والجزائر" والحقوا تعسفا المغرب الكبير بالشرق العربي ونهجوا سياسة التعريب وتدنيس الهوية الاصلية وتهميشها حتى أصبح الأمازيغي فيما مضى يخجل من التحدث بلغته في الأماكن العامة وفي الإدارة وتناسلت النكت المسيئة للأمازيغ وأصبحت العربية والفرنسية هي لغة أصحاب النبل والجاه والتسلق الاجتماعي بالمغرب ، قبل أن تتراجع العربية نفسها وتسيطر الفرنسية بشكل كلي بعدما أصبحت معيارا للترقي الطبقي بالمغرب. لكن الذي يهمنا اليوم هو، فهم لماذا يستمرون في إذلال الأمازيغ والتلاعب بحقوقهم حتى بعد ترسيم الأمازيغية ؟
المعطى التفسيري الأول نفسي فمن الصعب على الطبقة السياسية المغربية وخصوصا من النخب الفكرية والسياسية التي ورثت ثقافة إقصائية ويكرر إعلامها عقود من الزمن اسطوانة ، أن المغرب جزءا لا يتجزأ من الأمة العربية "الخالدة" وتربت عليها في المدارس وفي الكتب التعليمية وربطت مصالح حزبية وسياسية وعاطفية مع المشرق العربي ، من الصعب على هذه النخبة ان تعترف بالواقع الجديد واقع ان المغرب بلد أمازيغي إفريقي وان الانتماء المغربي انتماء متنوع ، لذلك فقد صدمت النخبة المغربية التقليدية عندما اعلن ملك البلاد في خطاب اجدير 2001 بوضوح وصراحة بان المغرب بلد امازيغي عربي ذو جذور افريقية ويهودية ، وزادت صدمتها الكبرى والضربة القاضية عندما حرص الملك محمد السادس شخصيا على ان يتم دسترة اللغة الامازيغية كلغة رسمية ، فما كان من الاحزاب المغربية التقليدية والنخب السياسية العتيقة الا ان انضبطت صاغرة بشكل انتهازي لهذا التوجه الجديد للدولة المغربية، واصبح الجميع مجبرا على الاعتراف بحقيقة تاريخية طالما تم تهميشها تاريخيا بان الامازيغ جزء لا يتجزأ من كيان الدولة المغربية. فالامازيغية بالنسبة للنخبة المغربية التقليدية رديفا للتخلف والانقسام والتبعية للغرب في اطار نظرية المؤامرة التي تسكن مخيلة المفكرين الاقصائيين دائما فهي ملازمة لهم ، فالبنية النفسية التي حكمت احزابنا ونخبنا وحكوماتنا فهمت الوحدة الوطنية على اساس انها وحدة عربية وان التضامن مع الشعوب الاخرى يجب ان يكون فقط مع الشعوب العربية والسنية تحديدا والدليل ان عدد كبيرالمفكرين المغاربة تضامنوا مع صدام حسين عندما قصفه التحالف الغربي واقاموا الارض ولم يقعدوها بالمظاهرات والاعتصامات في كل الساحات المغربية ، لكن عندما اباد النظام البعثي العراقي السابق شعب الاكراد عن بكرة ابيهم و قصفهم بالاسلحة الكيماوية و عندما ابيدت الثورة الشيعية الشعبانية سنة 1991 في حملة الانفال ، سكت الجميع من مثقفينا ونخبنا السياسية في تواطئ فاضح مع المعتدي لانه عربي سني والمقتول شيعي او كردي هذا ما يبرر بان نخبنا منسلخة فكريا وهوياتيا عن هوية اوطانها الاصلية واصبحنا تتمشرق وتحارب كل من ليس عربيا وان يكون سنيا المذهب.
المعطى التفسيري الثاني سياسي مفاده ان اعطاء الحقوق للامازيغ واتاحة الفرصة لهم سياسيا وثقافيا وفكريا سيكسر عدد كبيرا من الاصنام الفكرية التي ألفنا عبادتها وهي لا تصمد امام اول اختبار علمي ، ومن هذه الاصنام والاوثان ان ما يجمعنا في المغرب هو اللغة والدين فقط ، والحال ان ما يجمعنا حقيقة هو استقواء البعض علينا بالقوة العسكرية والسياسية تارة وتجهيل اجيالنا وتفقيرهم ليكونوا طيعين أذلاء تارة اخرى ، فتدريس الامازيغية في المدارس العمومية مثلا بطريقة صحيحة وبحسن نية سيمكن ابنائنا من التربية على حب لغتهم الام وسيخلق لنا مجتمعا مغربيا جديدا معتز بلغته وثقافته الاصلية الاصيلة. وينفتح على جيرانه المغاربيين وهذه معطيات ستغير المنطقة جذريا فكريا وسياسيا وهذا ما تخشاه الانظمة القامعة للامازيغ، كما ان اعطاء الفرصة للحركة الامازيغية سياسيا سيجلعها تكتسح الساحة السياسة وستعطي نموذج مبني على إعلاء الشأن الثقافي والفكري خصوصا وان الحركة الامازيغية تتبنى الحوار مع الغرب بل وتستلهم منه الفكر والرؤية ، فهي حركة مشدوهة بالغرب ومتشوقة لنموذجه الحضاري كما ان المكون الامازيغي مغاربيا هو المكون الثقافي الوحيد في المنطقة المغاربية الذي يريد اعادة كتابة وصياغة التحالفات والصداقات بين الشعوب على اسس غير عرقية ولا دينية، فانفتاح الحركة الامازيغية على الشعب اليهودي في اسرائيل وفي العالم مثلا يندرج ضمن اطار إعادة مسائلة بعض الاصنام والاوثان الفكرية والسياسية المثوارثة ومنها أن المغاربة عدوهم التاريخي هو اسرائيل وامريكا والغرب فيما حليفهم الطبيعي التاريخي هو السعودية والامارات والبحرين... وفق هذا المعطى إقصاء الأمازيغ إقصاء لدورهم السياسي المحتمل في اعادة مسائلة عدد من المسلمات الراكدة وكشف زيف العدد الكبير من الأوهام القومية والأضاليل الدينية .
المعطى التفسيري الثالث اقتصادي : استمرار إقصاء الأمازيغ اقتصاديا هو تعبير عن تخوف النظام السياسي المغربي من علاقة عضوية بين الفاعل الاقتصادي الامازيغي والفاعل السياسي الامازيغي ، بمعنى اخر ان يصبح للحركة الامازيغية قاعدة اقتصادية قوية عبر تلاحمها مع الراسمال الامازيغي المدجن اليوم والمقموع في صمت . فالحركة الامازيغية عندما تسطيع ان توصل الوعي الامازيغي إلى الفاعل الاقتصادي الامازيغي اليوم،" الذي يسخر لخدمة أجندات أخرى أو يجبر على مغادرة السياسة عبر الضرائب والقمع الاقتصادي" ، فهي تدخل غمار المحرمات اقتصاديا وسياسيا. اقصاء الامازيغية من الحياة الاقتصادية والسياسية اليوم معناه اغتيال أي إمكانية للعمل المشترك بين الفعل السياسي الأمازيغي ونخبته الاقتصادية ، هذا التلاحم بين المكونين سيجعل الحركة الأمازيغية معطى سياسي مؤثر في البلاد وستشكل بديلا حقيقيا للحركات الإسلامية اليوم التي تجتاح المجتمع المغربي بفعل غياب بديل حقيقي ذي مصداقية.
إقصاء الامازيغ بفعل عوامل نفسية واقتصادية وسياسية لا يعني ان الملكية بالمغرب لها موقف عدائي من الامازيغ لكنها اليوم تبقى رهينة موازين القوى في المجتمع والتي هي ليست في صالح الامازيغ لضعفهم التنظيمي من جهة ومن جهة أخرى لتوجس أطراف من الدولة من نواياهم وخلفياتهم وروابطهم الخارجية ، لكن من له مصلحة إبعاد الأمازيغ عن الفعل السياسي المغربي ومحاربتهم اقتصاديا وفكريا هو من يخشى من تغيير المواقع وتبدل المعطيات في مغرب المستقبل أي القوى الرجعية التي تريد أن يبقى الماء في بركة واحدة أسنة دون أن يتحرك.