شكل القانون التنظيمي المتعلق بالجهات رقم 111.14 أحد المخرجات القانونية المنصوص عليها في الفصل 146 من الدستور، الذي سيعمل على تنزيل كافة المقتضيات الدستورية ذات العلاقة بالجهوية المتقدمة في مستواها الجهوي، بعدما تبناها المغرب (الجهوية المتقدمة) كخيار مرحلي واستراتيجي لتدبير التراب الجهوي والمحلي، خصوصا بعد محدودية المقاربة الجهوية المعتمدة بمقتضى القانون 96/47، وعدم مسايرتها لانتظارات الفاعلين ومتطلبات الساكنة. وباعتباره أيضا إطار قانوني يتولى شرح المقتضيات الدستورية والتفصيل فيها، بما يتوافق مع القصد والمدلول الدستوري لمبادئها وتوجهاتها، بعيدا عن التأويل الخاطئ، وتحصينها من التحوير أو التوجيه لغير الأهداف المقصودة منها.
خصوصا أن تصور الجهوية المتقدمة قد انبنت صياغته في الاستناد على ركنين أساسيين، باعتبارهما المؤطرين الرئيسيين لتوجهاتها، يرتبط الأول بتوسيع اختصاصات المجالس الجهوية المنتخبة وصلاحيات رؤسائها، بينما يرتكز الآخر على توفير الموارد البشرية والمالية -على وجه الخصوص-، اللازمة للنهوض بمهام هذه المجالس والقيام بواجباتها التنموية بالكيفية المطلوبة.
وإذا كان من أهم المستجدات التي جاء بها الدستور على مستوى صلاحيات رؤساء المجالس الجهوية المنتخبة، بعد تأكيد المشرع على ضرورة انتخابهم من بين الأعضاء الناجحين بالاقتراع العام المباشر(وكلاء اللوائح)، تمتيعهم بصلاحيات الآمرين بالصرف، واعتبارهم الجهاز التنفيذي لمقررات المجلس ولقرارات رئيسه، في كافة المجالات التي تدخل في اختصاص المجلس،مع الأخذ بعين الاعتبار الحدود التي يتيحها الإطار القانوني.
غير أن المشرع عمل على تقييد تنفيذ هذه الاختصاصات والصلاحيات بتوفر مجموعة من الشروط، يمكن إجمالها في الآتي:
أن تتوافق مقررات المجلس وقرارات رئيسه مع الأنظمة القانونية المعمول بها.
ألا تخرج مقررات المجلس وقرارات رئيسه عن اختصاصات المجلس.
ألا تكون مقررات المجلس وقرارات رئيسه موضع تعرض من قبل والي الجهة داخل الآجال المنصوص عليها بموجب القانون التنظيمي.
أن يؤشر والي الجهة على مقررات المجلس وقرارات رئيسه.
ألا تكون مقررات المجلس وقرارات رئيسه موضع بطلان من قبل المحكمة الإدارية.
أن تراعي مقررات المجلس وقرارات رئيسه التوجهات العامة والقطاعية للدولة.
الالتزام بحدود الموارد المالية المتوفرة لدى المجلس الجهوي.
تبين هذه المنهجية، بشكل أساس أن الوزارة الوصية (السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية)، لازالت تنظر بعين قاصرة لوليدتها الشرعية (الجماعات الترابية)، وكذا لمن يتولون إدارة شؤونها. وهذا يدفعنا للتساؤل، إذا كان لهذا الطرح ما يبرره، فماهي دلالات هذا التقييد؟ وما هي الغاية منه؟.
يمكن اعتبار هذه القيود توجها لا يساير في العمق ما حققته اللامركزية الإدارية من تراكم، طيلة نصف قرن من الممارسة والتدبير العملي للشؤون المحلية والجهوية على التوالي. ذلك أن تقييد تنفيذ مقررات ومداولات المجالس الجهوية بالشروط السابق ذكرها، ليس سوى وجها من أوجه خنق صلاحيات الآمر بالصرف والمهام التنفيذية الممنوحة لرؤساء المجالس الجهوية، خصوصا أن هذه الشروط يتداخل فيها الشرط الرقابي الإداري، بالمالي، بالقضائي، ثم بمسايرة التوجه المركزي، والتي تمثل في مجموعها تحديات حقيقية على الهيئة المنتخبة إن غاب أحدها حضر الأخر، كما تمثل هذه الإجراءات أيضا حرص وتمسك وزارة الداخلية وتشبثها بحقها في الوصاية على وليدتها الشرعية (الجماعات الترابية) وإن تعددت الأشكال والأساليب.
كما تشكل هذه الشروط مجتمعة قيودا خطيرة تمثل استمرارية في تبني وتكريس منهج الوصاية التقليدية، التي سادت مظاهرها وطغت على مخلفات مرحلة التدبير الماضية للشأن الجهوي، وذلك عملا للتضييق على رؤساء المجالس الجهوية في ممارسة مهامهم واختصاصاتهم. وهو ما يتنافى ويتناقض مع مبدأ المراقبة الإدارية الذي أقره الدستور في الفصل (145)، الذي يرتكز على الحد من تدخلات سلطة الوصاية في عمل المجالس الجهوية، خاصة على مستوى التخفيف التدريجي من المراقبة القبلية ومراقبة الملائمة تمهيدا لإلغائها، مع العمل على التركيز فقط على المراقبة المواكبة والمراقبة البعدية بشقيها الإداري والقضائي، والحرص على عدم تدخل سلطة الوصاية إلا في الحدود التي يتيحها القانون. والمرتبطة أساسا بعدم مخالفة قرارات الرئيس ومقررات المجلس للأنظمة القانونية والتنظيمية المعمول بها، وأن لا تتعدى الاختصاصات المنوطة بالمجلس ولا تزيغ عنها. وهو ما لا نلامسه من خلال توجهات القانون التنظيمي الحالي والمواد التي تؤطر تدخلات السلطة المكلفة بالمراقبة الإدارية.
ستفرز هذه الشروط حالة من الشد والجذب بين رؤساء المجالس الجهوية وممثلي السلطة المركزية بالجماعات الترابية (الولاة)، على مستوى سلطة التحكم في تدبير الشأن التنموي بالجهات. من خلال اختلاف الرؤى التي تحكم التوجهين، حيث تنظر السلطة اللاممركزة (الولاة) بنظرة ملؤها تغليب الهاجس الأمني والضبطي للتراب، مع الحرص على ضمان توافق التوجهات التنموية الجهوية مع نظيرتها المركزية، في حين تنظر الأجهزة التداولية والتنفيذية للشأن الجهوي بنظرة سياسوية بامتياز يعكسها الرهان الانتخابي والحزبي، لأجل العمل على كسب رضا الهيئة الناخبة وعدم تعارضها مع مطالبها وآمالها، وإن اقتضى ذلك أحيانا الزيغ عن أهداف ومقومات وحدود التدبير الجهوي.
ومن بين ما تحيل عليه هذه الشروط كتوجه لتجاوز الإكراه المرتبط بالتصدي لتنفيذ المقررات من قبل ولاة الجهات، سيادة روح التعاون وضمان التعاضد بين ممثلي السلطة المركزية بالجماعات الترابية (الولاة) وممثلي الساكنة (المنتخبين)، في النهوض بالشأن الجهوي، كآلية أساسية لتمرير قرارات المجلس ومقررات رئيسه، والحرص على تحمل المسؤولية المشتركة وسيادة المقاربة التشاركية والإشراك لكافة الفاعلين والمتدخلين في اتخاذ القرار الجهوي، وفي تدبير الشأن التنموي بمستوياتهم الجهوية والمحلية، بدل التدبير الانفرادي والمقاربة الأحادية في التعاطي مع الشأن التنموي.
تمثل المنهجية المتبناة في هذا الإطار، اعتماد تأويل يتنافى مع المتن الدستوري من جهة، ومع الممارسة والتجربة العملية التي راكمتها الجماعات الترابية في مسارها التدبيري من جهة ثانية، ومع التصور المأمول والإستشرافي المنتظر من هكذا توجه تنموي، ومع الرهانات الملقاة على المجالس الجهوية في تدبير الشؤون المحلية والجهوية بكيفية مستقلة، باعتبارها المستوى الأسمى لتركيز السياسات التنموية وتوطينها، كما يتناقض مع مرتكزات تصور الجهوية المتقدمة الذي تقدمت به اللجنة الاستشارية للجهوية، الرامية إلى جعل الجماعات الترابية خصوصا الجهوية منها قطب رحى الديمقراطية ومرجعيته المثلى.
وإذا كان المعني بالأمر هم المنتخبين أساسا، فلماذ لا يتم تقييد شروط توليهم للمسؤولية بدل العمد إلى تقييد صلاحياتهم التنفيذية. من خلال وضع شروط تتوافق مع حجم المسؤولية الملقاة عليهم، والتنصيص قانونا على تحديد المستويات التعليمية الخاصة بذلك، عوض تقييد صلاحياتهم واختصاصاتهم المستمدة من روح المتن الدستوري والقانوني؟.
لقد تولت المادة (04) من القانون التنظيمي رقم 11/59 المتعلق بانتخاب أعضاء الجماعات الترابية، الذي تم تغييره وتتميمه بمقتضى القانون التنظيمي رقم 15/34، بالتنصيص على أهم الشروط الواجب توفرها في الهيئة المنتخبة. من خلال "اشتراط من يترشح للانتخابات بأن يكون ناخبا ومتمتعا بحقوقه المدنية والسياسية"، ولم يتم تضمينها بشروط تضبط تولي المسؤولية، وتعكس ديناميكية وفعالية على مستوى التحول في مقاربة تدبير التراب وعلى مخرجات أجرأته، خاصة شرطي الشواهد العلمية والسن.
وإن كان للطرح المرتبط بعدم تحديد شروط تولي المسؤولية في المجالس المنتخبة يجد هو الآخر تبريره من خلال إشكالية أساسية ترتبط بالسلطة التي تتولى التشريع في مجال الشأن الجهوي والمحلي، فإن المشرفين على الإدارة الترابية، قرروا أمام الكم الهائل من الملفات التي سجلت فيها اختلالات بالجماعات الترابية بمختلف مستوياتها، بفعل تصرفات أجهزتها التداولية والتنفيذية، والتي وقفت عليها بإمعان لجان تفتيش من المفتشية العامة للإدارة الترابية، ومفتشي المجالس الجهوية للحسابات، عبر تدقيق حسابات هذه المجالس وتحديد مكامن الخلل، على مستوى تدبير المجالات المرتبطة أساسا بالصفقات العمومية والأملاك العامة للجماعات الترابية...، وترجع الإشكاليات التي أدت إلى هذا المستوى من التدبير أساسا إلى ضعف مستويات التكوين والتأهيل للهيئة المنتخبة، غير المتوافق مع طبيعة المسؤولية الإدارية والمالية والتدبيرية للمرافق العمومية المشرفين على إدارتها. لأجل هذه الغاية أساسا قررت السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية، باعتبارها الجهاز الوصي على الجماعات الترابية، والجهة التي تتولى صياغة النصوص القانونية والتنظيمية المرتبطة بها قبل عرضها على السلطة التشريعية لدراستها والتصويت عليها، فقد قررت العمل على تقييد صلاحيات الأجهزة التنفيذية لهذه المجالس.
فهل مصلحة التأسيس لتجربة الجهوية المتقدمة تقتضي تضييق وتقييد صلاحيات رؤساء المجالس الجهوية المنتخبة، بشروط من شأنها التأثير على استقلاليتهم في اتخاذ القرارات التي يتطلبها النهوض بالتنمية الجهوية، والعمل على جعلها موضع التنفيذ بالشكل المطلوب، أم أن هذا التقييد الصلاحياتي لمهامهم القانونية له ما يبرره على مستوى الواقع؟.