منذ توليه مسؤولية تدبير الشأن العام بداية سنة 2012، اتضح "التوجه الإصلاحي" الذي تبناه حزب العدالة والتنمية المتصدر للانتخابات التشريعية في نونبر 2011 في شخص رئيس الحكومة، والذي أقل ما يقال عنه أنه مشروع لإفساد الدولة، وزعزعة استقرارها وأمنها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، مغلف بشعارات للإصلاح ومحاربة الفساد. وتبرز تجليات هذا الطرح من خلال المحطات والأشواط التي قطعها "السيد رئيس الحكومة" بغية إيجاد حلول ومنهجيات تقطع في نظره مع المقاربات السابقة التي تبناها أسلافه من رؤساء الحكومات المتعاقبين على تدبير الشأن الحكومي، والتي تبرز من خلال:
- التراجع عن تنفيذ محضر 20 يوليوز الخاص بإدماج المعطلين حاملي الشهادات العليا بالوظيفة العمومية الموقع مع حكومة عباس الفاسي.
- السعي التدريجي لتحرير المواد المدعمة من طرف الدولة "المحروقات، الدقيق، السكر، الغاز..."
- الزيادة في أسعار المواد الأساسية مقابل تجميد الرواتب.
- تخفيض عدد المناصب المالية للتوظيف في الوظيف العمومي.
- السعي إلى إصلاح نزيف صندوق التقاعد بمنهجية تعرف في عمقها نوعا من الإجحاف لحقوق الموظفين العموميين والشغيلة العاملة بالقطاع الخاص.
- التفكير حاليا بتجميد الوظيف العمومي لمدة خمس سنوات قادمة.
- السعي إلى التخلي النهائي عن أسلوب الوظيفة الدائمة (الوظيفة العمومية) مقابل تبني أسلوب التوظيف المؤقت (التعاقد).
- غياب سياسة واضحة للتشغيل بعد مضي أربع (04) سنوات من تولي الحكومة تدبير الشأن العام.
- تحوير تنزيل نظام المساعدة الطبية (راميد) سواء على مستوى أهدافه الحقيقية أو على مستوى طبيعة الفئات المستفيدة منه.
- إغراق كاهل ميزانية الدولة بالمديونية خاصة الخارجية منها.
- العمل على خرق قانون الوظيفة العمومية رقم 50.05 خصوصا المادة (22) منه التي تحدد مساطر وطرق التوظيف في الفقرة الثانية منه، على أن من بين الاستثناءات التي أعفى بها المشرع من أسلوب المباراة "خريجي المدارس والمعاهد التي تكون تابعة مباشرة لقطاع وزاري معين، يعهد إليها تكوين مجموعة من الأطر قصد إدماجها مباشرة في الإدارة مثل: (خريجي المدرسة الوطنية للإدارة التابع إداريا لوزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة/ خريجي مراكز تكوين الأساتذة والمعلمين التابع إداريا لوزارة التربية الوطنية/ خريجي تكوين الممرضات والممرضين التابع إداريا لوزارة الصحة...)"، وتم مؤخرا إصدار مرسومين يتناقضان مع مضمون النص القانوني الأصلي سواء بالنسبة لوزارتي التربية الوطنية ووزارة الصحة، وهو ما يمثل استهتارا بالمنظومة القانونية ومقومات الأمن القانوني.
وإن كانت المنهجية المتبناة خلال هذه المرحلة تنطوي في ظاهرها على إبراز إرادة للانخراط في اعتماد إصلاحات مستدامة، فإن باطنها ليس سوى إجهاز على المكتسبات المحققة خلال العقود الماضية خاصة على المستوى الاجتماعي. وما "زاد الطين بلة" هو لجوء الحكومة إلى فتح أوراش كبرى للإصلاح بشكل متزامن من دون خلق توافق وإجماع على مستوى مخرجات التسوية بين الأغلبية من جهة، والمعارضة والفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين من جهة ثانية، ومن دون إيجاد حلول لها، ومن دون ترتيب أجندة أولوياتها، حتى انطبق عليهم المثل القائل (أسمع جعجعة ولا أرى طحينا). والتي ارتبطت أساسا بفتح الملفات التالية:
- العمل على تنزيل المنظومة القانونية الخاصة بالدستور (القوانين التنظيمية/ القوانين العادية/ المراسيم التطبيقية...)، والتي لم يتم لحد الآن إصدار ثلثها، مع أن الفصل (86) من الدستور أكد على ضرورة إصدار كافة القوانين التنظيمية خلال الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ الدستور.
- ملفات إصلاح صندوق المقاصة وأنظمة التقاعد، التي ما زالت تعرف حالة من الشد والجذب بين الفاعلين والمتدخلين في هذا المجال، زكاه التناقض البيّن في الرؤى ومداخل الإصلاح المتباينة والمتناقضة بين الحكومة والمعارضة والنقابات الأكثر تمثيلية.
- محاربة الفساد التي تم وأدها يوم حمل لها شعار "عفا الله عما سلف".
- الارتفاع المهول لمستوى العجز الذي بلغ نسبة %7 مقابل نسبة النمو التي لم تتراوح %2,5، مع أنها مرشحة للانخفاض خلال السنوات القادمة للاستقرار في نسبة %2 أو أقل من ذلك، مع العلم أن البرنامج الحزبي للعدالة والتنمية كان من بين دعاماته الأساسية بلوغ نسبة نمو تصل ل %7، ونسبة عجز لا تتجاوز %2، غير أن العكس هو الحاصل. وإن أمكن اعتباره قدرا يوضح لنا بجلاء أن مناهج الحزب الحاكم وبرامجه لا تقاس ولا تقرأ أسسه وأرقامه سوى بالعكس (بالمقلوب).
وهذا يحيلنا إلى مسألة أساسية أن تدخلات ما يصفهم "السيد رئيس الحكومة" بـ (التماسيح والعفاريت) لم تكن سوى إشارات لتنبيهه (أي رئيس الحكومة) بأن ما يقوم به لا يسير سوى في اتجاه الخطأ، حتى يلتقط الإشارات (فلاش) يعمل بموجبها على تغيير منهجية التدبير التي رسمها بشكل منفرد دون تبني مقاربة التشاركية والإشراك، غير أن النباهة السياسية "للسيد رئيس الحكومة" ووعيه الفتاق وحدسه النافذ، لم يلتقط سوى إشارة واحدة مفادها أنهم (حسب المعجم البين-كرياني العفاريت والتماسيح) يتدخلون في تدبير الشأن الحكومي ويعملون على محاولة توجيهه أو إفشال التجربة الحكومية.
والآن وأنتم "رئيس الحكومة" مقبلون على مشارف نهاية فترة انتدابكم الحكومية فقد دخلتم في ورطة لن تخرجوا منها إلا وأنتم صاغرين، ما لم تلجؤا إلى إتباع منحى سياسية الهروب إلى الأمام، من خلال تركيز حملتكم الانتخابية على أساس أن الفترة الحكومية الحالية كانت مرحلة للتأسيس للإصلاح، وأن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة العمل الجاد على تفعيله (محاربة الفساد/ فتح الأوراش الكبرى/ المواجهة مع التماسيح والعفاريت).
خصوصا أن ما أقدمتم عليه من تدابير مغلفة بملف الإصلاح المزيف لا تمثل سوى تراجع عكسي عن مسار الإصلاح الحقيقي الذي قامت به الحكومات المتعاقبة، وما بذلته من مجهودات لتأهيل القدرة الشرائية للمواطنين، وتحسين مستوى عيشه، وتحصين مقدراته الاقتصادية من أي خرق لا يتناسب مع الوضعيات والمؤشرات السلبية التي قد تعصف به، لاعتبارين أساسيين، يرتبط الأول بعمله على تشويه الإصلاح وإغراق كاهل الدولة بالديون والعمل على تأزيم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لأجل الضغط بالشارع لتضييق الخناق على من يسميهم (التماسيح والعفاريت)، حتى يحقق مآربه الخاصة طبعا وليست العامة التي سقطت عنه يوم جلس على كرسي رئاسة الحكومة، فتخلى عن برنامجه الانتخابي لصالح مطامع حزبه في الوصول إلى مناصب المسؤولية وتثبيت أطر حزبه في هياكل الدولة، وإن كانت ستأتي المرحلة التي سيتحالف فيها مستقبلا مع من يصفهم بـ "التماسيح والعفاريت" ويضيف إليهم أيضا القروش والدببة...، أما الاعتبار الثاني فيتمثل في عمله على تشويه المشهد السياسي وبلقنة الاستقرار الاجتماعي، ورهن مستقبل المغرب في يد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذا إحداث بلبلة في الشارع، من خلال الارتفاع المهول لنسب البطالة خاصة في صفوف المعطلين من حملة الشواهد وغيرهم، مع غياب بنيات احتوائها. وذلك لأجل ضمان البقاء في سدة الحكم أمام ضبابية وتوجس العديد من الفاعلين السياسيين من هذه التدابير، والعمل على التهرب من تحمل المسؤولية خلال مرحلة الانتداب الحكومي المقبل.
خصوصا أن منهج الإصلاح ببساطة لا يأتي مرة واحدة بل بالتدرج، مع الأخذ بعين الاعتبار احترام الوضعيات الايجابية والتدابير الحسنة التي تصب في صالح المواطن، غير أن تصدر حزب العدالة والتنمية لانتخابات البرلمانية، ومنح منصب رئيس الحكومة لأمينه العام تبدلت قناعاته يوم أكل حينها من (شجرة الزقوم)، وشرب من (ماء المهل)، ولن يتراجع عن منهجه التدبيري إلا بعد أن تلسعه (نار سقر) التي لا تبقي ولا تذر، حينها يقول لقد أضعت منهجي في لحظة غفلة من التاريخ، ويا ليت الزمن السياسي يعود فأعمل صالحا لما يرضى الشعب ويطمح، ولكن بعد فوات الأوان.