الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: العربي المساري.. الغريب المتعدد..!

عبد الحميد جماهري: العربي المساري.. الغريب المتعدد..!

في تعدديته النابهة وذكائه الأخلاقي، الذي مارس بهما المرحوم الراحل الكبير محمد العربي المساري، حياته الفكرية والسياسية والإعلامية والديبلوماسية، ما قد يقنعنا أنه كان يجيد التموقع في أكثر من دائرة، بدون أن يفقد الهوية القائمة له، التي تجعل له في كل قلب تمثالا من مياه عذبة.. سلسة.

ولم يكن التواجد، بهذه الكثافة التي كان يتقنها في العلاقات الإنسانية كما يتقنها في التفكير والكتابة والعمل، يعني البتة أنه يجيد التوازن، بقدر ما أنه ظل جيد التموقع في هويته الدائمة:المناضل!

لهذا وجد أنه كان غريبا.. في الكثير من اللحظات.

ولهذا أسأل بغير قليل من الوجل: أفي مثل هذا الوقت يموت…. الغرباء؟

وأجيب نفسي بذات الوجل: عندما ملأ العربي المساري نفسه بما يكفي من الغربة، اعتقد هانئا أن الخزان الضروري للرحلة قد امتلأ، وأن الغياب ينتظره مثل قطار من ورد!

لهذا أحببته أيضا، ولهذا كما هي العادة مع كل الأحبة الذي أسدوا جميلا أنني عرفتهم، لم أهيئ قلبي للرحيل وللغياب..

هذا الغريب الذي أحببناه، رغم السياسة والجغرافيا وهزالة الواقع اليوم، وجد نفسه، ووضع مساره في مرحلة حرجة من تاريخ الدولة والمجتمع، في الفترة الفاصلة بين عهد يلوح بالوداع وآخر يلوح بالمجيء، ووجد نفسه على رأس وزارة الاتصال، بين زمن لم يولد كليا وزمن آخر يريد أن يؤسس أسطورته الخاصة، ووجد نفسه في تلاقي الدوائر الساخنة:الإعلام والسياسة في مرحلة انتقال.. وكان عليه أن يتمرن فعليا على أن يولد الإعلام الجديد.. بدون قابلة، إن هو أراد أن يكون شبيها بالمرحلة!

أدرك، في زمن لا نعرفه بالتحديد من عمر المسؤولية، أنه يراد له أن يرسم طيورا تطير بلا أجنحة، وأن يحاول أن يضع حلم إعلام ديمقراطي يريده الجميع، في إطار مزين، ويكتفي بالنظرة المادحة!

لهذا وجد أنه كان غريبا..

ولهذا، كما يفعل الغرباء المجدون في غربتهم، كسر الإطار المذهب الذي وضع فيه، ونزل من المرحلة!

وجد المساري نفسه في تلك البقعة الملتهبة في الزواج الرهيب بين مؤسسة الإعلام، التي كان يعتبرها القرار الرسمي وما يزال قلعة، وبين منعرجات سياسة تميل إلى تجريب التعايش على ضفاف التغيير المحتمل، أكثر مما تعيش التجربة.

لم يعتبر التكيف المطلوب في سراديب الدولة مهنة يتقنها، ولا أعتقده اعتبر أن المهارة هي حظ التأقلم مع كل الإكراهات.

هو أقلنا موتا، بهذا المعنى، لأنه لم يعط الحياة السياسية مبررها لكي تفرض عليه الموت بالنظرة الصامتة، الموت المعلق بنوايا الرغبة الدفينة في العودة إلى المشهد...

كما أنه لم يعتبر الحياة، كمجرد عيش، مبررا كافيا لكي يضحي من أجلها بحريته النقية، الهادئة والرزينة، تلك التي لا تعلن في كل المنابر أنها حرية، بل تلك التي تهب علينا مثل النسيم..

ولهذا عندما قرأت ما صرحت به ابنته من أنه استعد للموت في حديقة البيت، محاطا بالعائلة، قلت: "عادة، لا تكون الحدائق مكانا جيدا لموت مفاجئ: لكن العربي المساري، ربما اختار أن يكون هانئا تماما مثل النسيم في تعريفه للحرية.!

لهذا ظل غريبا"..

ونحن الجيل الذي عشنا لحظة طويلة من الانتقال السياسي كما لو كان غرفة للدردشة السياسية، كان المساري، قريبا منا بغربته، وشعرنا أنه دليلنا على أن شكنا على صواب، بالرغم من كل ما آمنا به واعتقدنا أنه سر مغربي بامتياز وقدرة على عدم السقوط في المستحيل العربي المفضي إلى العنف!

الأستاذ العربي بهذا المعنى عربون حياة ومودة، وعربون معجزة ممكنة في مغرب مسكون بالحيطة والحذر، وبالفخاخ: لهذا ربطنا به علاقة تفوق الانتماء وتفوق الاحترام: كان يهاتفني عندما تعجبه عبارة أو عمود، واقترح علي العربي رحمه الله أن أنتقي مجموعة من الأعمدة وأصدرها في كتاب..

وكنت أفتخر، أمام نفسي أنني أعجبت بمقالي، الكبير العربي المساري:مرة، لما كتبت: "من يقنعني أن هذه البلاد لم تجن؟" عن تخريب التاريخ وتلويث نظافة الأبطال الوطنيين والتهافت الوطني جدا في صناعة مجد غير مسجل!

اتصل بي وبقايا ضحكة ما زالت عالقة بين كلماته، بلكنته الثرية والمحببة لدى من ينصت إليه، قال لي: هذا أخطر سؤال يمكن أن يواجه الانتقال الديمقراطي، ثم ضحك بالمطلق!

ثم مرة أخرى اتصل بي، ليطلب مني الانتباه إلى ما يعانيه الفنان الكبير شبعة مع المرض،.. وفي كل مرة يكون الاتصال منه، أشعر أنني سأحتفل بيومي، أنني سأضيف إلى سلال الحفاوة ثمرات طيبات جديدة.. من فواكه الإنسانية.

هو ذاك معي في كل مرة، وفي كل لقاء شاركته فيه، كما حدث ذات تطوان مع الصحافيين المغاربة والإسبان في مؤتمر لهم بالشمال!

يذرع وجداننا، كما يحلو له، سيد الحفاوة والطيبوبة، لهذا كان يجيد الجلوس مطولا في المقاعد الذي نعدها له في قلوبنا أكثر من راحته في مراكز القرار!

الغريب المتعدد، كانت تلك طريقته المثلى في أن يكون للناس جميعا، للأجيال جميعا وللقلوب جميعا، لأنه لو لم يحتفظ بتلك الغربة التي تقي من التزحلق ومن الانتقال إلى المألوف البليد، لكان واحدا آخر في الزحام.. لكنه بقي كما عهدناه: واحدا آخر.. في الرجال العظام!