الأربعاء 27 نوفمبر 2024
خارج الحدود

في فرنسا المتبجحة بالشفافية.. الرئيس و وزيره الأول يتواطآن من أجل تسخير طائرة الشعب لغرض متابعة مباراة رياضية

في فرنسا المتبجحة بالشفافية.. الرئيس و وزيره الأول يتواطآن من أجل تسخير طائرة الشعب لغرض متابعة مباراة رياضية

أمر مقبول أن يكون مسؤول حكومي محبا لفريق ما، وليس بغريب أن يشد من أجله الرحال إلى بلد آخر قصد متابعة إحدى مبارياته. لكن ما لا يعتبر عاديا ومجانبا لمنطق الصواب هو أن يُسخر طائرة الدولة وبكامل طاقمها للقيام بسفريته الشخصية تلك. تلميح من هذا القبيل ليس توطئة، كما سيغلب على الظن، لكشف فضيحة ببلد من بلدان العالم الثالث أو ما يدعون مجاملة الدول السائرة في طريق النمو، أو حتى تلك التي تتلمس طريقها نحو التفرقة بين المصالح الذاتية والمصلحة العامة، وإنما بدولة تصنف ضمن المتقدمين صناعيا واقتصاديا، المنفتحين اجتماعيا، والمتنورين فكريا وثقافيا. بل وفي مصاف المدافعين الشرسين على استتباب الديمقراطية عالميا، وإن ظاهريا وبالأبواق الإعلامية على الأقل.

ببساطة، الجمهوية الفرنسية هي المعنية بالموضوع، وبطل قصتها الجديد مع لازمتها المتبناة "يقولون ما لا يفعلون" هو وزيرها الأول مانويل فالس، الذي أعمى شغفه للفريق الإسباني برشلونة بصيرته،  وحدا به إلى أن يضرب عرض الحائط كل مبادئ حماية الممتلكات العامة بدل توظيفها لقضاء أغراض محدودة حتى لا نقل أسرية. فاستباح أموال الشعب بأغنيائه وفقرائه ليحضر نزال ناديه الكاطالوني المفضل برسم نهاية دوري عصبة أبطال أوربا بالعاصمة الألمانية يوم السبت الماضي، الذي واجه فيه غريمه الإيطالي جوفنتيس، مستغلا، بما تترجمه كلمة استغلال من معاني الشطط، سلطة نفوذه ليضع يده وبلا حرج على طائرة الدولة حتى تكون رهن إشارته وإشارة اثنين من أبنائه لغاية نقلهم إلى برلين ذهابا وإيابا حيث مكان الموقعة. لكن ما لم يكن يتوقعه الرجل ومعه معاونيه على تبخيس ثقة الناخبين،  هو أن تكون عيون ذوي النيات الحسنة تتعقبه وتحسب أنفاسه، منتظرة فقط ثبوت التهمة عليه باكتمال أركانها حتى تعري حقيقة فعلته الجرم لأبناء الشعب.

وكما هي حالة كل مفسد عن سبق إصرار وترصد، كان مانويل فالس قد رتب كل الاحتمالات والتبريرات المسبقة والجاهزة حالة انكشاف خيانته، والتي أجملها، كما قال بالبرلمان، في أنه كان بخصوص مهمة رسمية تهم لقاءا جمعه بمسؤولين عن اتحاد لعبة كرة القدم الأوربي على خلفية احتضان فرنسا لنهائيات كأس أوربا العام المقبل. إنما "على مين؟"، كما يسخر إخواننا المصريين، إذ سرعان ما ربطت إحدى الجرائد هناك وهي "لو كانار أونشيني" اتصالاتها، ولم تكن "من العاكزين" في تحريك أرقام هواتفها التي لم تمكنها من التأكد مما هو رائج فحسب، وإنما قادتها إلى التوصل أيضا بأدلة وبراهين تثبت الخبر اليقين، ومن ثمة تورط الوزير الأول بقرائن تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أن فالس لم يكن له أي اجتماع ولا هم يحزنون مع أي مسؤول بخصوص الموعد الكروي الذي تحجج به. مما زاد من الغضب الثائر ضده اشتعالا وسخونة، لم تنفع لتهدئة روعها مساندة الرئيس فرانسوا هولاند له الذي اختلق من جانبه أسبابا وهمية لتبرئة وزيره الأول وإبعاده عن الشبهات، لكن دون جدوى انسجاما مع قاعدة "ما بني على باطل فهو باطل". بل أكثر ما أضاف للطين بلة، هو أن ذلك الدعم من هولاند سعَّر بدرجات أشد حنق المنتقدين لما قرؤوا بين سطوره من تواطؤ رسمي ومحبوك على المصالح العليا البلاد ومواطنيها لفائدة حسابات قزمة.

شعور بالغبن مثل هذا وما تفجر عنه من ردة فعل صادمة وسط الشارع الفرنسي، لم يدم وقعه أكثر من خمسة أيام حتى أتى أكله اليوم الخميس، مرغما الوزير الأول على الرضوخ للأصوات المشجبة، قبل أن يطلع بتصريح الرافع للراية البيضاء، وهو يتعهد راكعا بتأدية مصاريف الرحلة من حسابه البنكي وتسليمها "على داير أورو" للخزينة العامة الفرنسية، كاعتراف ضمني باقتراف ما نسب إليه. هذا، في الوثت الذي يبقى الخطير  غير المطمئن في ذلك الإقرار الصادر ممن ينتمي إلى عشيرة المفتخرين بإسداء دروس النزاهة والشفافية لغيرهم، هو أنه لم ينطق به صاحبنا نتيجة إحساس بالندم أو بناء على صحوة ضمير، وإنما انتُزع منه فقط بدافع "مكره أخاك لا بطل".