حركت ندوة المجلس العلمي الأعلى حول موضوع «السلفية بيان المفهوم وتحقيق المضمون" التي استدعي لها رؤساء وأعضاء المجالس العلمية وعدد من الوجوه العلمية الأكاديمية ومن المحسوبين على التيار السلفي الوهابي كثير من الأسئلة الكامنة في الحقل الديني المغربي. وعندما نتأمل ونقرأ ما ترشح عن هذه الندوة من خلاصات وتوصيات ونتائج فكرية نجد ان الندوة فسرت "الماء بالماء" وتمخض بيانها وتحقيقها الذي تغيته من محاضراتها ونقاشاتها عن غموض والتباس موجه لغاية في نفس القائمين عليها ، فلا مفهوم توضح ولا مضمون تحقق سوى مزيد من الغموض في مفاهيم كان أولى بالقائمين على الندوة توضيحها تحصينا لثوابت الهوية الدينية الوطنية وتنويرا للرأي العام الديني والثقافي الوطني وذلك في سياق إقليمي ودولي يعج بحركات التطرف الديني التي تتخذ من السلفية الوهابية مرجعية واديولوجية فكرية لها مما يجعلنا نطرح أكثر من سؤال ونضع أكثر من علامة استفهام حول الخلفيات والأسباب المتحكمة في تغميض مفهوم السلفية وإتلاف مضمونها وعدم ربطها فكريا وايديولوجيا بالوهابية مع ان الرابط بينهما أوثق من حبل الوريد ومن الحبل السري الذي يربط بين الام بجنينها؟ لماذا غفلت الندوة دور الفكر السلفي الوهابي في غسل الشباب المغربي من ثقافته وتدينه الوسطي المعتدل الذي ترعاه إمارة المؤمنين وتجنيدهم في حركات الإجرام الديني المشرقية وإرسالهم إلى الانفجار وخوض الحروب الطائفية في المشرق بالوكالة مما شكل وما يزال تهديدا للامن القومي المغربي هذا الأمن الذي ندين به للأجهزة الأمنية الوطنية التي فككت ولا تزال مئات الخلايا الإرهابية؟ من المسؤول عن تحول هؤلاء المغاربة إلى إرهابيين لا يتورعون في تنفيد عمليات انتحارية وإجرامية لإزهاق ارواح بريئة واستهداف مؤسسات أمنية واقتصادية وشخصيات سياسية وفكرية وطنية كما هو الشأن للخلية الإرهابية الأخيرة التي تم تفكيكها في الشمال؟ من حول المغرب الى مجتمع ودولة تصدر الإرهاب التكفيري السلفي الوهابي حسب تقارير أمريكية وغربية؟ ولعل هذه الأحداث على بشاعتها وخطورتها تبدو نتائج موضوعية لمسيرة عمل تعبوي سلفي وهابي يتحرك على مرأى الجميع، ويتحرك بتراخيص إحداث التعليم الديني وإمامة المساجد كما هو الحال مع جماعة " محمد المغراوي" الذي أنجزت حوله مجلة (أكتييل) ملفا تفصيليا حول شبكاته في الداخل والخارج، ومصادر تمويله من أجل هدم سريع لثوابت الهوية المغربية التاريخية والحضارية، الأمر الذي جعل من المغاربة صيدا سهلا للشبكات الإرهابية العالمية، وهي تبدو وتتجلى أكثر من حيث نتائجها الكارثية على مغاربتنا في الخارج بصورة أقوى وأخطر، وإلا ما معنى أن يتوجه طلبتنا وتلاميذنا إلى أوربا وكندا وأمريكا للبحث العلمي وللدراسة، فيصبحون أعضاء فاعلين في التنظيمات والشبكات الإرهابية والإنتحارية؟ وكيف لطبيب ومهندس مغربيين-نفذا عمليتان انتحريتان في سوريا- أن تتم تعبئتهما واستقطابهما بسهولة وتجنيدهما إلى سوريا وداخلها بين النظام ومعارضته، فهل جفت عيون مواردهم البشرية الجرارة من الخليج والمشرق عامة لتعمل على تجنيد المغاربة؟ وكيف بطلبتنا وأطرنا المغاربة في أوربا الذين ذهبوا للتكوين ومن المنتظر منهم أن يشكلوا نماذج لنا من الحداثة والعلوم والحرية والتعدد والديمقراطية،وإذا بهم يتحولون إلى انتحاريين ومفجرين لأنفسهم وللآخرين؟ لكن المؤلم الآن هو أن الإجابة عن هذه الأسئلة المفارقة لم يعد خافيا على أحد، فكلنا يعلم الإجابة عنه ، ومنه ما سبق أن أشار إليه ونبه له علماء ومفكرين ومسؤلين مغاربة سواء من داخل مؤسسات تدبير الشأن الديني أو خارجه ولعل استقالة الدكتور محمد المرابط المندوب الجهوي للشؤون الإسلامية لجهة طنجة تطوان من مهامه عبر طلب الإعفاء الذي تقدم الى جلالة الملك بصفته أميرا للمؤمنين قبل أشهر كانت تحمل في دلالاتها وأبعادها ومغزاها اكثر من مؤشر على ما بات عليه الحقل الديني المغربي من أزمة بنيوية مزمنة- وكنا قد اشرنا الى معاني استقالة السيد المرابط في وقتها في مقالنا المنشور في جريدة الأحداث المغربية وهسبريس الالكترونية بعنوان ماذا يعني ان يقدم د المرابط استقالته – فالسيد المرابط من الشخصيات المغربية العلمائية المشهود لها بالنزاهة والإخلاص للوطن التي تجمع بين التكوين العلمي في علوم الشريعة والفقه وباعتباره أيضا من المؤمنين والمدافعين عن مشروع الحداثة والتنوير ببلادنا ومن المحسوبين على الصف الحداثي الديمقراطي ومدافعا شرسا عن مؤسسة إمارة المؤمنين في التجربة المغربية التي شكلت و لازالت سر تألق الدولة المغربية واستقرار نظامها السياسي واستطاعت بحق ان تنجز ذلك التوازن الدقيق والصعب بين منافع الحداثة والفكر الديمقراطي والحفاظ على خصوصية الهوية الدينية والحضارية الوطنية ومن هذا المنطلق كانت استقالة السيد المرابط بمثابة رمي الحجرة في بركة الماء الآسنة للحقل الديني المغربي واللازمة التي تستفحل فيه و نبهت إلى مخاطر بقاء سياسة تدبير الشأن الديني على ماهو عليه على كيان الدولة المغربية والمجتمع والوطن وانه لا يمكن بأي حال من الأحوال الركون والاعتماد المطلق على يقظة الأجهزة الأمنية لحماية امن البلاد من مئات الخلايا الإرهابية التي تم إحباط خطر إجرامها وإرهابها –حسب ما جاء في تقرير السيد ياسين المنصوري مدير "لاجيد" في التقرير الذي قرأه امام مجلس الأمن الدولي السنة الماضية- وانه لابد من البحث على وسائل وقائية وتحصين الوحدة المذهبية للبلاد و وهويته الدينية في مدرسته المالكية المغربية والعقيدة الاشعرية وتصوف الجنيد وذلك لا يتأتى إلا بنهج سياسة تدبير شأن ديني تقطع نهائيا مع ازدواجية خطاب يدعي الحفاظ على ثوابت الهوية الدينية والحضارية للأمة المغربية وعمليا يمكن مفاتيح تدبير الشأن لمشاريع أصولية ذات نزعة اديولوجية وحزبية مشرقية معادية للشخصية الدينية المغربية ومحاربة للإسلام المغربي. وقبل استقالة الأستاذ المرابط كان إعفاء الدكتور سوسان فكري اليعقوبي كمندوب جهوي للشؤون الإسلامية بالحسيمة والذي كان يدبر الشأن الديني بالمنطقة انطلاقا من ثوابت البلاد ومرجعيته الدينية تماشيا وانسجاما مع تكوينه وقناعاته الفكرية والثقافية المغربية إلا أن المخطط التحكمي الأصولي الذي توجد غرفة عملياته بوجدة لم سيتسغ هذه المنهجية في تدبير الشأن الديني بالمنطقة وتم الضغط لدى الجهات الوصية لإعفاء سوسان فكري، لقد كانت واقعة الإعفاء هذه مصداق اخر من مصاديق أزمة الحقل الديني المغربي و مؤشر اخر على أن ثمة مخطط أصولي يعمل على تصفيات حسابات ايديولوجية وسياسية مع مسؤولون وعلماء و مفكرون وسياسيون وفاعلون ومثقفون يتبنون خصوصية المدرسة الحضارية المغربية بكل ما تعنيه وتحمله روافدها الحضارية المتميزة بإسلامها العريق والمتمدن الذي يمثله أمير المؤمنين بصفته الممثلة لكل المغاربة بدون تحزيب ولا تسييس ولا أدلجة، ما دام هذا الإسلام هو عقيدة للمغاربة أجمعين، وليس مشروعا ايدولوجيا او سياسيا لطائفة دون غيرها، ولا يرى فيه المغاربة تعارضا مع القيم الكونية والحضارية للفكر الإنساني الحداثي الديمقراطي المنفتح على شعوب العالم وثقافاتهم.
انطلاقا من هذه القراءة يمكن القول أن مجريات الندوة تجعل المتتبع يسجل ان الندوة شكلا ومضمونا جعلها قد تندرج بهذا التخبط في وظيفة التدليس على المستوى الفكري والاديولوجي وسياقها السياسي الزمني ، في الوقت الذي ستوفر فيه المزيد من ظروف الحماية واستنبات مزيد من مشاريع التطرف بالبلاد، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال حول مستقبل المغرب وحاضره في سياق دولي وإقليمي جعلت منه جماعات الإرهاب الأصولي التي تعتبر الاديولجية السلفية الوهابية الخط الناظم الذي يجمعها والرحم الذي خرجت جلها منه يقف على صفيح ساخن. وانطلاقا من اعتقادنا الراسخ ان ندوة المجلس الأعلى شكلت تدليسا لا شبهة فيه على ثوابت الهوية الدينية الوطنية وعلى مقام مؤسسة إمارة المؤمنين ستكون الحلقة المقبلة من مقالنا حول التدليس الأصولي في ندوة المجلس العلمي الأعلى للوقوف على كثير من الحقائق الفكرية للسلفية و الفرز التاريخي للمفهوم بين السلفية التقليدية والسلفية الوهابية وهو عودة في الحقيقة إلى بحث كنا قد نشرناه في جريدة الأحداث المغربية على ثلاث حلقات بعنوان" كيف صادر الإسلام الأصولي قرار الإسلام المغربي، التدليس الديني والسياسي في المشروع الأصولي" بتاريخ 12 13 14فبراير2013. وللحديث بقية.