هي امرأة من قاع المجتمع المغربي العميق أبا عن جد، تنحدر من سلالة تربة الوطن الطيبة، امتزجت روحها بخليط من طين ودم الإنسان الحمري والدكالي والعبدي والرحماني، امرأة تشبعت بكل تفاصيل الحياة البدوية العميقة، تليق بها كل الأسماء النسائية من زمانها البعيد مثل الطاهرة ويامنة والضاوية وعبوش وسليمة ومباركة... امرأة من وسط زارعي تربى على الكفاف والعفاف، عاشت في كنف أسرتها المحافظة، ارتوت وشربت من حليب المواشي وهي ترعى وسط الأراضي الفلاحية وهضابها وتلالها لتقاوم العطش، وأكلت نباتاتها المختلفة الأشكال والألوان، وحفرت تربة الحقول بحثا عن "يرني" واصطياد "المرد" في زمن الجراد لتهدئة مغص الجوع.. تحكي بفرح كبير وهي تروي عن طقوس المنطقة احتفالا بزواج أو ختان، وكيف كانت تعشق الرقص على إيقاع غناء الماية النسائي ومجموعات عبيدات الرمى وعيساوة وشيخات الزمن الجميل خفية عن أنظار أفراد العائلة، وتستحضر شجاعة الفرسان خلال الأعراس وهم يطلقون العنان لخيولهم وبارود بنادقهم انتشاء بتفاصيل التاريخ والجغرافيا... تتحدث عن طفولتها وعن شبابها بانتشاء رغم الحرمان وقلة ذات اليد تحت سقف "النوالة" التي ترعرعت بداخلها صيفا وشتاء بردا وحرا.. تحكي بهمة رجولية كيف قاومت وتشبثت بخيط الأمل والرجاء لتكون تلك المرأة التي أوصى بها والدها ذات زمن بعد أن حسم في أمر زواجها من أحد شباب الدوار، ذلك الجندي الذي عاد من وراء البحر بعد انتهاء مهمته الحربية ضمن صفوف الفرنسيين..
اكتسبت كل مهارات المرأة البدوية المغربية شمالا وجنوبا شرقا وغربا.. المرأة الشامخة التي شاركت القبيلة في عملية "التويزة" مثلها مثل الرجل، من رعي وحطب وجلب الماء وحرث وزرع وحصاد ودرس ونقل الاثقال والأحمال.. شاركت النساء في كل أعمال الخيمة من غسل الصوف وغزلها ونسيجها وتنقيت الحبوب وطحينها وعجينها وطهيها وحلب الأبقار واستخراج ما لذوطاب من سمن ولبن.. امرأة تنبعث منها رائحة الدوار بكل تفاصيله الجميلة...
تروي بكبرياء عز نظيره في زمننا هذا، أنها قد برعت وتفننت في خدمة بطلها وفارس أحلامها محمد على جميع المستويات رغم صغر سنها آنذاك، نظافة وطبخا واستقبالا، دون الخوض في قياسات العلاقات الاجتماعية في الزمان والمكان وغياب الأساسيات والكماليات والحقوق والواجبات، حيث كان الحسم في الخلافات والتطلعات والأحلام للعرف والتقاليد وأحكام المجتمع السائدة دون أن يغفل أحد عن قيم فطرية إنسانية غريزية منقوشة بفعل موروث تقافي شعبي قاسمه المشترك الطاعة والأخلاق والحشمة والوقار...
أوشام نقشت بعناية فائقة على الجبين والذقن مثل نياشين شاهدة على منجزات امرأة حديدية وصلبة، كلل الشيب الأحمر رأسها مثل تاج ذهبي، وكل شعرة فيه تروي ألف حكاية وحكاية عن الصبر والجهاد والكفاح من أجل أن ينبت الغرس ويستقر النسل، كل شعرة ذهبية مخضبة بالحناء والورد والريحان تنبعث منها رائحة الأم الطاهرة الصفية العطوفة والحنونة، كل شعرة لها قصة حزن وألم وخوف رصعت صفحات العيش فيها بقلم الصبر والمكابدة والانتظار.. كيف لا وهي التي جايلت فترات حكم أربعة ملوك علويين بالوطن، وخبرت معاناة البشر والحجر مع المستعمر الغاشم والاستغلال البشع للطاقات البشرية مع بداية اشتغال بطلها وفارس أحلامها بمناجم الفوسفاط والاستقرار بقريته المنجمية لمزيندة باليوسفية..
صلت وتضرعت للسماء، زارت الأولياء والصالحين وتصدقت بما جاد به الوقت على الفقراء والمتسولين، حملت وتمخضت ووضعت، أرضعت فأوفت دون حساب، ربت فتوفقت وتفوقت، بكت وضحكت رقصت وجذبت، و سهرت الليالي صيفا وشتاء ولم يغمض لها جفن، قاومت في صمت دون هرج ومرج، قاومت المرض والموت فضمنت الاستقرار والبقاء لهذا الجيل بعشق دون أن تطلب تسوية حساباتها ونفقاتها من أحد لأنها ببساطة اشتغلت من أجل نبض الحياة...
ما زالت تحيا بيننا، ينبض قلبها بالحب والحنان، تصارع وتقارع قيم زمننا الرديء هذا بقوة الانتماء للتربة الأصيلة، ترسل رسائلها دون تردد لكل من يخالف قناعاتها تفرض احترامها على المحيط، قادرة على التمرد كل حين ضد سلوك هذا الجيل الذي تخلى عن قيمه واصوله، تتحسر على الماضي بكل حمولاته تتألم للرداءة التي أصابت مفاصل المجتمع...
هي تلك المرأة التي تحمل اسم يطو، حدو، فاطنة، مسعودة، الطاهرة، يامنة، أمباركة، عبوش، الضاوية وسليمة... إلخ.