انتهيت من قراءة رواية "أساتذة الوهم" للروائي العراقي علي بدر (منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان 2011)، ورأسي يضج بالأسئلة.. أسئلة ستظل معلقة ما دامت تتعلق بمفاهيم الوجود المتعنتة والرغبات الإنسانية المنطلقة وعشق الكلمات الحرة الصادقة...
رواية فتحت لي آفاقا واسعة على العوالم الروائية العراقية الجديدة، البعيدة عن كتابات الرواد من أمثال غائب طعمة فرمان وفؤاد تكرلي ومجيد الربيعي وسامي ميخائيل وجنان جاسم و جمعة لامي.. كتابة باذخة ومقاربة عالمة لعوالم سوداء من عراق صدام حسين والحرب العراقية الإيرانية.. حكايات شباب اكتوى بنار الحرب وارتوى من القمع ومصادرة الأحلام الطائشة، ورغم كل ذلك كان يصنع لنفسه مسارا متفردا في دنيا الإبداع: كتابة الشعر ومغازلة الجمال والهروب للأماكن الخلفية، حانات حقيرة وفنادق وضيعة حيث الفقراء والمهمشين والمهاجرين المسلوبي الإرادة...
جنود وساعات وجماعات أدبية سرية تتشكل داخل الأقبية والسراديب التحتية، يكتبون، يغنون ويشربون ملئ البطون خمرا، رافضين منطق القتل والمشاركة في أوهام عظمة زعيم أصابه الخبل لحد تحويل أرض دجلة الخير، لفضاءات شاسعة من القحط والخراب.. شباب شاهد على انهيار الأحلام المجنحة والسجون المفتوحة بكل اتساع لكل عشاق الحرية، ورغم ذلك كان كل واحد من هؤلاء الشباب، من أبناء هذا البلد المنكوب، يصنع لنفسه هالة، يخط مجازات، ينشر دواوين خارقة للعادة، الدكتور إبراهيم وديوانه "أناشيد" بعالمه الميتافيزيقي الهلامي، علي وهلوساته المصاغة في قصائد بعناية فائقة، عيسى وأشعاره اللامرئية المتمردة.. كاظم سليمان وسالم خيون وإبراهيم محسن وعلي عباس وعادل جواد، جميعهم كانوا شاهدين على قبح المرحلة، حاولوا الهروب من أتون الحرب وثقافة القتل، حاولوا صياغة عوالمهم الليلية، بعيدا عن عيون الجواسيس ورجال السلطة المتيقظة، صنعوا الليل وهجروا النهار.. فالليل يصنعه الأدباء الفوضويون والصباح تصنعه السلطة الكافرة، السلطة المتجبرة التي لا تسمح بنسمة هواء، السلطة التي تتعامل مع المواطن بمنطق التحقيق والتعذيب والإجبار على الاعتراف.. في جلساتهم الحميمة، سأل السارد كاظم لماذا لا تكتب رواية بوليسية؟ عقب على الموضوع قائلا، لا يمكن كتابة رواية بوليسية في أي من البلدان العربية، "الجريمة في الغرب يتم كشفها عن طريق الدليل، في العالم العربي بالإقرار والإكراه.. وبالتالي هذا هو سبب فشلنا في كتابة رواية بوليسية... عيسى وجدها فرصة، فالتفت إليهما وقال: الرواية البوليسية بحاجة إلى مجتمع غربي، تعامل الشرطة الناس كبشر، هنا الرواية البوليسية تنتهي بيوم واحد، يوم تتدخل السلطة وتنهي الموضوع.. الغرب مجتمعات مركبة يمكنه إنتاج رواية بوليسية، مجتمعاتنا سطحية يصعب إنتاج رواية بوليسية فيها، نحن مجتمعات بلا مضمون وبلا أشكال... الرواية البوليسية يكتبها واحد اسمه شارلوك هولمز، تكتبها واحدة اسمها أغاثا كريستي.... فقاطعه سالم قائلا، ديستويفسكي أيضا.. الجريمة والعقاب رواية بوليسية.. فأكمل له عيسى، إذن عليكما تغيير اسميكما إلى الروسية ، أنت تصبح كاظموف سلمانوفسكي.. و أنت تصير سالموف خيونفسك " (ص 252).
جماعة "بهية" تشكلت بهم ومن خلالهم، وسط هذه الأجواء الفولاذية.. فريق إبداعي غير معلوم، رغم أن إنتاجه علني، لكن اجتماعاته سرية، كتابة القصائد تتم بينهم بشكل جماعي، يمارسون عمليات السطو والنشل والسرقة لتمويل وطبع الأعمال الأدبية...
من تكون "بهية" هاته التي استعاروا اسمها وشرفوه بإطلاقه على جماعة ومنتجات أدبية.. إنها عاهرة من عاهرات الميدان، كبيرة السن، لكن كانت في زمن مضى أجمل مومس في بغداد.. عاشرت أكثر السياسيين ألمعية، لكنها انتهت بائعة سجائر على بسطة أمام منازل العاهرات..
المجموعة قاومت الحرب لأن الحرب عدوة الفن والإنسان، احتفت بالجنود الفارين والهامشيين وكل المرضى أو ما كانوا يطلقون عليهم "بروليتاريا الصحة" والعاهرات الذين ينعتونهم ب "بروليتاريا الأخلاق"... كتبوا قصيدتين ورواية شعرية عن الهروب من الحرب ولذة السهر مع الأحبة والأصدقاء، لكن القدر عاكسهم، لم يبق حليفهم،، ألقي عليهم القبض وحكموا جميعا بالإعدام..
إعدام شباب كان يحلم بالشعر ولا شيء آخر غير الشعر، القدر جعلهم رغم أنوفهم، يعيشون فظائع الحرب وخسائر التاريخ، مطاردات البوليس ورجال العسكر والفقر المدقع، حولهم إلى أصدقاء الحظ النكد..
عيسى الشاعر الأكثر موهبة بينهم، أو بروفيسور الوهم، كما كان يسميه صديقه منير، كان إنسانا متفردا، حمل صليب الموت أينما حل وارتحل، مجند فقير هارب من الخدمة العسكرية، ممسوس بالشعر ومجنون بسير سادته الكبار، بحث عن الشهرة الأدبية ومحاولة وضع حد لواقع لم يكن له يد في تشكيله واختياره، تتبع آثار الشعراء الغربيين وتفنن في استلهام حيواتهم الضاجة بعبق التمرد والحرية، شعراء كبودلير ووايت وايتمان وت. س إليوت وسان جون بيرس..
".. عيسى بالذات.. كان يشعر باغتراب كبيرو تقزز من مجتمع لا يمكنه أن يقدم له تجارب شبيهة بما يقدمه مجتمع بعيد لشعراء أعجب بهم، قرأهم وتمثل حياتهم، قرأهم وعرف كل شيء عنهم، كان يشعر بأنهم يعيشون معه، يتنفس ويحلم بهم، ويعرف عنهم أكثر مما يعرف أي واحد آخر عنهم.." (ص 103)، بل تزيا بأزيائهم وتجمل ببعض إكسسواراتهم وقلدهم في الأكل والشرب والاحتفاء بالوحدة وطقوس الكتابة وإعفاء اللحية وتدخين الغليون..
مدينته بغداد، ما عادت مع مرور الأيام، تسع أحلامه الواسعة ولا تتلاءم مع طموحاته العريضة، ".. إنه لا يرى (في بغداد) سوى مدينة عفنة لا تشبه إلا صدف السمك الميت، إنها قفص، لا نجوم ولا غيوم ولا سلالم، مدينة بلا رجال أو نساء، إنهم ليسوا بشرا إنهم حيوانات مفترسة بأذناب ومخالب، كلماتهم نوع من الهجاء، كلمات جارحة، حروف حلقية متفجرة، عربية أشبه بانفجار الحديد والبرمنغنات..." (ص 126)، لم يكن يشعر بهذا العالم الذي ولد فيه إلا باعتباره كابوسا، سينتهي حين ينتقل، كما يحلم، إلى المكان الصحيح، مكان آخر غير هذا المكان الذي يعيش فيه، وعالم آخر غير هذا العالم الذي يحيط به، عالم مدينة الأنوار باريس أو فضاء النور والنار مدينة الضباب لندن أو غيرها من الأماكن الأكثر تحضرا وحرية..
لعيسى صديقان حميمان، الأول اسمه منير، أبوه عراقي وأمه روسية، هو الآخر شاعر موهوب ومترجم قوي للشعر الروسي أو هكذا كان يخيل لهم، ترجماته كانت تتم على البداهة، قراءة وترجمة فورية في الحين للعربية، نصوص شعرية مشكلة من خلال لغة باذخة... بعد موته على الجبهة، سيكتشف صديقهما الثالث (السارد)، أنه لم يكن يتقن يوما ولا كلمة من لغة بوشكين و ياسينين ومايا كوفسكي وآنا آخماتوفا..
الثلاثة عاشوا في وهم الغد الأفضل، أبحروا في دنيا الكمال الفني، هاموا بعالم الشعر والشعراء، بنوا من الكلمات قصورا والتعابير المجازية ورودا، لكن القدر البعثي جرهم جرا، شتت جمعهم ودمر أحلامهم، حولهم إلى كائنات تنتظر انقراضها وبشر يحيا على أجراس الخوف من المجهول وانتظار الأسوأ كل يوم..
الشعر لم يكن بالنسبة لهم محاولة للوصول للكمال، إنما رغبة في تشويه حياتهم التي لم يكونوا يتقبلونها كما هي، "أننا ننتشي بالشعر كما لو كنا ننتشي بالرغبة الجنسية" هكذا كان يردد طيلة الوقت عيسى، رغبة في حقيقة الأمر، كانت تتزيا بزي الكوابيس والأحلام المصادرة..
في رسالة دالة عن عمق الإشكال بالمجتمع العراقي ومعه العربي الإسلامي يتوصل بها السارد من ليلى السماك، باحثة تبحث عن أخبار مجموعة "بهية"، تؤكد فيها: "ربما مشكلتنا في بغداد هي التقليد الأعمى، فتاريخنا الحديث هو تاريخ قراءة وإساءة قراءة أكثر مما هو تاريخ تجربة.. الإسلاميون قرأوا كتب التاريخ القديمة.. قرأوا الأحداث التاريخية وكأنها حدثت اليوم: إن الناس في بلادي تبكي على بعض الشخصيات التاريخية وقد قتلت منذ ألف وأربعمائة عام، وكأنهم قد قتلوا منذ ساعة. لا شيء يفصلنا عن التاريخ مطلقا، كلنا. فالمشايخ في الجوامع قرأوا كتب التاريخ وأرادوا تطبيقها كما هي، والمثقفون المعاصرون قرأوا ثقافة أوروبا، وأرادوا تطبيقها كما هي.. إنهم يعيشون وكأنها حاضرة في دمهم وروحهم، و بدل من أن يفرز الواقع الأفكار، أصبحت الأفكار تفرز الواقع. ولذلك فقدنا البوصلة... " (ص 106 و107).
الرواية إدانة للحرب من خلال قول الشعر وحكي سير استثنائية لشباب استثنائي.. ليس هناك توصيف للهجوم والهجوم المضاد.. لا جنود قتلى أمام أعيننا، ولا أزيز رصاص يقض مضاجعنا ولا نيران مشتعلة في الحقول المترامية الأطراف والأوراق المكتوبة بعناية، فقط الكلمات الدالة والحيوات المتجاورة لشباب رفض الانصياع والاستكانة لتعاليم الزمن المقيت..
علي بدر جعلنا نقرأ ما وراء الكلمات والسطور، ما وراء معاني العبث الإنساني، نغرق في أتون قصائد غير مكتملة لشعراء كتبوا مآسيهم بحرقة بالغة ولوعة التجارب المستمدة من هناك على الجبهة ،على الدم النازف والقتلى الذين لم نسمع لهم أنينا..
علي بدر هذا الروائي القادم من العراق، العائش الآن هناك في قلب الأحلام المجهضة لعيسى ومنير وبقية مجموعة بهية، جاء برواية نحتت من خلال كلمات مختلفة.. جاءنا بنص يعلو عن زمن السرد العراقي المعروف، يعلو لكن يؤسس معه تواصلا معلوما، تواصل مع نصوص طالما أحببناها: "النخلة والجيران" و"الرجع البعيد" و"دابادا" و"آخر الملائكة"...
شكرا علي بدر الروائي المنغمس في روح وقلب الخلق.. وشكرا لأساتذة الوهم، الشباب الطائش الذي أحب وطنه لحد أنه أحجم عن تقديم دماءه للعبث ووهبها بدلا من ذلك للكلمة الحرة الصادقة وللحياة الجامحة المتمردة حيث انتصار قيم الحب والشعر على قيم التسلط والحرب المدمرة...