إنه أسبوع اليونان بأوروبا، إلى الحد الذي يمكن للواحد منا القول، كما لو أن القارة العجوز تعود لتتعلم من جذرها الحضاري الإغريقي القديم كيفية رسم خرائط المستقبل. أليست أوروبا ابنة شرعية، في الأول والأخير للحضارة الإغريقو-رومانية. هو أسبوع اليونان، لأن أثينا عادت كي تصبح صانعة الحدث سياسيا في كل الاتحاد الأوروبي، بعد الفوز الساحق للحزب اليساري الراديكالي سيريزا، بزعامة القائد السياسي الشاب أليكسيس تسيبراس، الذي هو أشبه بشخصية إغريقية أسطورية خارجة من فيلم سينمائي يمجد البطل المنقذ من الهاوية.
بل، وشاء مكر القدر أن يتزامن ذلك، مع حدث آخر بأثينا، في ذات اليومين، هو رحيل أسطورة الغناء اليوناني ديميس روسوس، بلحيته الكثة وصوته الطفل الحزين، ببحته المتوسطية، هو الذي اشتبكت في دمائه روح المتوسط، كونه ولد بمصر واشتهر في باريس وغنى بكل لغات العالم الحية. دينيس الذي لم يشتهر فقط بأغنيته الخالدة "حين أحبك" (quand je t’aime)، بل تعنينا منه هنا، أغنيته الرائقة الأخرى "نكتب على الحيطان" (on ecrit sur les murs)، التي كما لو أنها تتحدث بالضبط عن أسطورة أليكسيس تسيبراس وحزبه اليساري الراديكالي سيريزا، حين يصدح مغنيا:
"في كل المدى المحيط بنا،
علامات أمل في العيون.
رسائل للأيام الآتية
نكتب بمداد دمنا
نكتب على الحيطان سطوة أحلامنا
كلمات محفورة
حتى نغير كل شيء."
واضح أن أثينا تكتب الكثير هذه الأيام على حائط أوروبا، رسالة أن جنوبها المتوسطي قادم ليعيد صياغة قدر القارة العجوز، وليوقظ الحلم النائم للكرامة هناك. لأنه سيكون، من الكسل الفكري الارتكان إلى خدر أن الواقعة اليونانية مجرد قصة إغريقية تخص أثينا وإسبرطة وبحر إيجة. بل، إنها عميقا، رسالة عن أوروبا أخرى قادمة، بكل المعنى التاريخي والسياسي والاقتصادي للكلمة. لأن ما حدث هناك، مع الصعود الزاحف لذلك الزعيم اليوناني الشاب، الذي ولد سنة 1974، بوسامته الشبيهة ببطل سينمائي، هو أن "لا" كبيرة لمعنى أوروبيا، دام منذ التسعينات، قد صدرت كبيرة. وهي "لا" لها جرس التاريخ، حين ننتبه، أنها ليست صوتا يونانيا فقط، بل لها نظائر وأشباه في أصوات إسبانية وبرتغالية وإيطالية وفرنسية. ولو انتبهنا قليلا، سنجد أنها أصوات جيل سياسي بالقارة العجوز، مستقل نهائيا عن المعاني التي خلقتها اللحظة السياسية الأوروبية الغربية لما بعد الحرب العالمية الثانية. لأن الرؤية السياسية، التي أنضجت خطابا سياسيا أوروبيا وحدويا، بمنطق الحرب الباردة وما بعد سقوط جدار برلين، التي بلورها جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما لو أنها قد استنفدت دورها التاريخي هناك، وبدأت تطل رؤية سياسية جديدة لجيل جديد، بخطاب سياسي مختلف.
إن ذلك كله قد جعل صوت جيل جديد يخرج هناك، مختلف عن صوت جيل ما بعد حروب القرن العشرين. بمعنى آخر، لقد انتهى منطق القرن 20 أوروبيا، بشكل نهائي، وولد مع جيل حزب سيريزا، منطق مختلف نهائيا خاص بالقرن 21. ألسنا نسمع اليوم في باريس صوتا متصاعدا للمطالبة بالجمهورية السادسة، كناية عن موت الجمهورية الخامسة كهوية سياسية، كما أطلق ذلك منذ شهور الزعيم اليساري الراديكالي الفرنسي، ابن مدينة طنجة المغربية، جون لوك ميلانشون؟ ألسنا نرى، هذا التصاعد الهائل، مثل زنبقة تتسامق من بين بحيرة الحياة، لحزب بوديموس بإسبانيا بزعيمه الشاب، بضفيرته الأشبه بملامح الزاباطيرو الهنود، بابلو إغليسياس، الذي بالكاد أكمل 36 ربيعا من عمره؟ ألسنا نسمع رنين أصوات مماثلة في البرتغال وإيطاليا، عنوانا على أن ملامح أوروبا جديدة تتبرعم مثل تويج نحل في كل ذلك الجنوب المتوسطي للقارة العجوز؟ بل وأن يكون شعار ذلك الجيل كله هو "الكرامة" و"الأمل"، وأن قدر الإنسان الأوروبي ليس بالضرورة أن ينتصر منطق السوق على منطق الدولة.
ها نحن، نكاد، نلج إلى أكبر رد، ضد منطق السوق market، من أجل منطق الدولة state، الحامية لحقوق الأفراد، أي الدولة الحكم الناظمة، من أجل التوازن بين واجب الرأسمال وحق المواطنة.
(عن زاوية "منبر حر" بإذاعة ميدي آن الدولية)