الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

إدريس القري: الفنان العربي … العولمة والسياسة والإبداع

إدريس القري: الفنان العربي … العولمة والسياسة والإبداع

صديقي العزيز الفنان المغربي والعربي، سينمائيا كنت أو مصورا ضوئيا أو رساما تشكيليا: لتعلم أن العولمة مثل الحداثة، فهما اليوم بؤرة نقاش لا يستقيم إلا (كما قلت) إذا كنا على طريق العمل لإرساء بنيات قوية في مجتمعاتنا لهما، في نسيج التسيير والتدبير اليومي للعلاقات بين الأفراد والجماعات من جهة، وبين الدولة والمؤسسات المدنية والمواطنين من جهة ثانية. هذان المفهومان (وهما بالمناسبة ليسا مجرد مصطلحين) قديمان قدم الدولة وبداياتها الأولى. فالحداثة تعني في الأصل الدلالي الجوهري السعي نحو تطوير النظام العام للمجتمع وللدولة نحو آفاق أفضل للجميع ما أمكن. أما العولمة فهي سعي نظام سياسي واقتصادي وثقافي إلى بسط سيادته عالميا. وهذا السعي يكون تحت يافطات متعددة أغلبيتها الساحقة أوهام وكذب وتضليل، وهو أهم ما تضمه إيديولوجيا ما صيانة لجوهرها التجميعي القطيعي للناس.

أقلت السبب؟ إنه الرخاء والحرية والازدهار والتقدم والحقوق.. التي يسعى إليها الجميع ولا يبلغها إلا الجادون في العمل الماهرون في إنجاز نجاعته وفاعليته. لا يتم هذا الإنجاز تاريخيا إلا بالعنف الذي هو (في الدروس الأولية لهذا المفهوم) من طبيعة الدولة واحتكارها السياسي إلى جانب الثروة. إن الحرية والرخاء وكل القيم التي تحدثنا عنها أعلاه، لا ثم لا ولن ولم تمنح على طبق من ذهب يوما ما ولأي كان عبر تاريخ البشرية، ومرة أخرى لأن ازدهاري سيعني بالضرورة فقرك بشكل أو بآخر، وهذا ما نراه على المستوى العالمي في القواعد والقوانين والمواثيق الدولية وتطبيقاتها وإن بدت نظريا مبنية ومؤسسة على القيم النبيلة والكونية الكبرى التي درسونا.. إنها تأسست مع اليونان، وبالتالي هم ورثتها الشرعيون والأوصياء عليها ناكرين نظرية التراكم الإنساني في بناء الحضارات والثقافات ومكتسباتها الكونية. لذلك،ينبغي معرفة الوضع العالمي على مستوى أخطر أدوات نقل وتلقين وتكوين المعرفة التي ينشأ عليها المواطن الفنان، لأن هذه الأدوات هي كذلك أنجع أدوات تحوير الحقائق تطويع الرأي العام بل وتحوير القيم في عمق دلالاتها. ولنا مثال فيما هو عليه الشأن العالمي اليوم وعلى الملإ بالنسبة لقيمة حقوق الإنسان والحرية وحرية التعبير: إنها اليوم مجرد فكرة ـ مومس بدون مقابل، عبدة تحت تهتك اليمين المتطرف الغربي بما فيه الكيانات المضافة إليه بانتمائها "الثقافي" الأصيل وليس بالجغرافيا، رغم قولهم بأن لا قفز إستراتيجي ممكن عليها.

من هذا المنطلق صديقي الفنان العزيز المغربي والعربي، عليك أن تصدق بأن علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية والفلسفة، وهي قاعدتهم وراعيتهم ومواكبتهم بالنقد والتعرية.. كما عليك أن تقتنع بشكل كامل بأن لا وجود لوعي جمالي ولوظيفية إنسانية راقية للفن ولتفكيك نقدي عميق وضارب في عمق الإنسانية له دون هذه العلوم، بل إلى جانب حتى العلوم الحقة من رياضيات وفيزياء وبيولوجيا، وهذا موضوع آخر شيق ومدهش وخصب لا يستقيم تطور عالمنا العلمي وتعرية التوظيف الماكر للتكنولوجيا وللعلوم ونتائجها دون معرفته.

هذه العلوم إذن يا صديقي الفنان العربي، لا مندوحة عنها لتأسيس إمساك بناصية الفن، تكملة للإمساك بتلابيبه التقنية المعقدة والتي لا مجال أيضا (وهذا مبدأ أكثر من قاعدة) لأي إنجاز إبداعي دون تأسيس بنيات تعليمية شاملة وملائمة ومحترفة لنشر إنتاجها وتشغيلها والتطوير فيها على طول وعرض الوطن العربي. آه تتأسف، بل تعبر عن وجعك مما يعم فضاءاتنا العمومية والمؤسساتية من كذا وكذا، يعني ذلك أننا بعيدون عن التقنية كعقلانية وكنظام حياة يستوعب أسس ثورة الأنوار في التسيير والتدبير، وضمن ذلك الاشتغال على الفنون الحديثة المبنية على التقنية كأسُس، هذا كله نتيجة، لنقل أخرق، لهذه التكنولوجيا وهو كذلك نتيجة لانتقائيته ولاكتفائه بالقشور منها دون اللب، وبالاستهلاك دون الأسس العقلانية في تدبير الحياة والسلوك التي تنتج هذه التقنية..

لقد أصابت منا العولمة يا صديقي الفنان القلب والعقل، أي أنها مسختنا في ثقافتنا التي لم يعد لنا منها إلا الغضب الأجوف بوعيه القاصر، وبالنخوة الموجعة بأخطائها المرتدة علينا، أما قلب هذا الفخر الأوروبي وهو الفكر الفلسفي الذي أتى بكل هذا التقدم وأسس له، وذلك عندما أعاد الاعتبار للعقل وكشف عن بؤس التفكير السحري الأسطوري ما يتأسس عليه من إيمان باليقينيات المضللة والخاطئة التي نلقنها في دروس الفلسفة بالمغرب للمراهقين دون جدوى منذ ما يقارب ربع قرن، هذا الفكر الذي اشتغل عليه من أجدادنا الأمجاد المعتزلة وعلماء وخلفاء وفلاسفة بشجاعة منقطعة النظير في خضم تنكر للعقل قاس وظالم وغالي الثمن (عمر بن الخطاب، الكندي، الخوارزمي، ابن الهيثم، ابن سينا، ابن مسكويه، ابن رشد وزرياب....). رجال في الغالب متنورون أسسوا، في القرون الوسطى، للنقد الكانطي الذي أيقظ أوروبا من سباتها العميق، وأسسوا كذلك لعصر أنوارها الذي ينتج لهم الآن رفعة وتفوقا ورغد عيش، قلب فخرهم هذا ينكرونه اليوم ويعتمون عليه بشكل رهيب، وهو على أي من أسس قيام عولمتهم وعماد تفوقها.

لتكف صديقي الفنان العربي عن العزل والفصل بين الفنون والعلوم والسياسة، فكلها سلاح واحد سلاح ذو حدين: فإما أنه سلاح يقطع ليطعم العجزة ويبر بهم ويرعى الصغار، أو أنه سلاح يقطع ليُثْكِل الكبار ويُيتِّم الصغار، يرتب ويصنف ويعزل ليكرِّم المبدعين والمجتهدين، أو أنه يعزل ويفرز ليُذِلَّ المجددين وليُهِينَ المبتكرين ويفرض، بالإثم والعدوان، الجهلة والمتملقين والسماسرة والمنحرفين نموذجا لغد عاطل عن التفكير. فبين مكياليْ أصحاب عولمة قرن ماض امتدت سطوتهم في قرننا الواحد والعشرين هذا، وبين تشوه لمنظومة قيمنا الكونية التي كنا لها من المؤسسين المساهمين، ما زلنا نناقش الحق في الرأي وفي التسيس، ضاربين صفحا عن الحق في الكرامة تعليما وسكنا وجسدا وصوتا يعلو في فضاءاتنا العمومية، وفي "معاقرته" فنونا وعلوما وإعلاما...

فماذا بعد يا صديقي الفنان العربي؟ هل يستقيم الحديث عن الإبداع قبل أو بعد ما نحن بصدد ؟؟