الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: عنصريتنا التي تحاكم عنصريتهم

دلال البزري: عنصريتنا التي تحاكم عنصريتهم

نهرب إليهم عندما تحلّ علينا واحدة من مصائبنا الكبيرة المعتادة. نسعى إلى حمل واحدة من جنسياتهم، والتمتع بنظامهم الأرحم من أنظمتنا. نسعى للوصول إلى بلدانهم بشق الأنفس؛ بالمعاملات الطويلة، بدفع الأموال، بالإجراءات المعقدة، بزوارق الموت... والتي يضجّ بها البحر الأبيض المتوسط. نبحث عندهم عن وطن جديد، عن جنسية أخرى، عن لجوء سياسي أو إنساني. وإذا أقمنا ثورة سياسية، أو إصلاحا، هم نموذجنا: نظامهم، نهجهم، آليتهم السياسية، هذا ما نصبو إليه في أوقات غلياننا وإمكانية التغيير. وعندما نحاصَر بويلاتنا، نناديهم، نطالبهم بالتدخل لإنقاذنا من وحوشنا الداخلية، من إسلاميينا، من عسكرنا... وندينهم بشدّة، على عدم تدخلهم، على أنانيتهم وحرصهم على مصالحهم، خصوصا مصالحهم، تلك الكلمة السحرية التي نختم بها أي جدال حول تقاعسهم أو فتورهم أو إهمالهم، أو إمبرياليتهم.

نتباهى باعترافهم بأي شيء نقوم به: يسعى فنانونا وكتابنا ومبدعونا... وكل أبناء هذه الفئة الممتازة من بيننا، يسعون إلى كلمة أو إشارة أو صورة أو جائزة أو نيشان أو ترجمة أو دعم... إذا كان للواحد منا نصيب فيها، نرفعه إلى مرتبة أعلى، نطْنطن به حتى مماته، ومن بعده أحيانا.

الذين يعيشون عندهم من بيننا، لهم مرتبة علينا، أو مراتب، نحن الباقين هنا. عندما يحضرون في زيارة أو في عودة نهائية، يظلون على رفعتهم؛ وكلهم يرددون الكلمة نفسها، في اعتراضاتهم أو حواراتهم أو حتى كتابتهم: "أنا عشت هناك سنة، أو عشرين سنة، وأنا أعرفهم جيدا"؛ فتكون الكلمة-الحجة التي ينال صاحبها بفضلها سبق النباهة والإدراك.

فوق هذا، أو بجانبه، نذهب إليهم بطموح غريب، هو أن تخضع بلدانهم لقوانيننا، لأنظمتنا، لثقافتنا، لأمزجتنا؛ نريد أن تكون رؤيتهم لدينهم ولوطنهم ولاجتماعهم، على شاكلة أنظمتنا التي هربنا، أو نحلم بالهرب منها، على شاكلة مجتمعاتنا الممزقة، الضائعة...

تلك البلاد التي نتكلم عنها ليست روسيا ولا الصين ولا باكستان ولا إيران؛ لا أحد يحلم بالهروب من جحيمه إلى واحدة من هذه الدول. تلك البلدان هي بلدان الغرب، هي أوروبا، أميركا أو كندا؛ وكلها أصبحت قبلتنا، وجهتنا، حلمنا. ومع ذلك، لا نجد لتبرير جرائم يرتكبها ضدهم أبناء جلدتنا، وباسم ديننا، لا نجد تفسيراً لها، من بين التفسيرات الجاهزة، غير أنهم "عنصريون". عنصريون لأن أبناءنا لم يندمجوا، لأن الدولة هناك لم تساعدهم، لأن الثقافة السائدة لم تساير معتقداتهم، لأن نظامهم الاجتماعي لا يشبه نظامهم الخ.

ولكن، لنقف أمام المرآة، وندرس درجة العنصرية السائدة بيننا، نقارنها بتلك التي نرميها على أنظمة الغرب وقوانينه؛ لنتواضع أكثر، نستجمع قوانا الذهنية، ونراقب ما حولنا من دون منظار، لنخلص إلى عنصريتنا نحن، الأفضح، الأقوى، المنفلتة من كل قانون وعرف وإنسانية، وحتى تقاليد.

أنظر إلى أقلياتنا وأكثرياتنا كلها؛ الدينية المذهبية، الإثنية، الوطنية. لم نكن بحاجة إلى "داعش" لكي نلحظها. "داعش" توّجت مساراً بطيئا شبه صامت لتمييز أقمناه ضد كل اختلاف، لقتل كل مختلف: ضد الكرد، ضد المسيحيين، ضد الأيزيديين والشبك، ضد الشيعة... "داعش" استملكت عنصرياتنا الدينية الاثنية المزدهرة في ربوعنا.

أنظر من جهة أخرى إلى العنصرية "المدنية"، إلى عربي، أو غير عربي يهاجر إلى بلد عربي آخر، أكثر، أو أقل ثراء منه: إلى المعاملات التمييزية الصريحة الصارخة، البالغة حدّ العبودية، أو العبودية المقنّعة. ومحصلتها عنصريات على أنواعها، لا تكفي لوحة واحدة لرسمها. كلها عنصريات تنقلها ثقافة المهاجر الأصلية إلى الغرب، تفعل في سرّه وتتفاعل مع كل إشارة اختلاف يضخّها البلد الذي يستقبله. فتكون عنصرية الضعيف تجاه عنصرية القوي، وردّ القوي عليه، ثم أتون لا ينتهي عند حدّ.

ولكن عندما تدقق في بواعث وأصول عنصريتهم، وتقارنها ببواعث وأصول عنصريتنا، فسوف تخلص من دون عناء شديد إلى أن المطلوب تغييره فينا، أعمق وأرسخ وأعقد، من ذاك التغيير المطلوب تغييره عندهم. وأنه الأصعب خصوصاً: فعنصرية الغرب يمكن مكافحتها، من دون حروب أهلية، بالتصويت والاقتراع وتأسيس جمعيات وتغيير وجهة السياسات. أما عنصريتنا... فأين السبيل لمحاربتها؟

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)