منذ ربع قرن، عام 1989، أصدر قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخميني، فتوى تدعو إلى قتل سلمان رشدي، صاحب رواية "الآيات الشيطانية"، لأن الرواية، بنظره، تتضمن "إهانة للرسول ونسائه". عاش سلمان رشدي متخفياً مختبئاً لمدة ثلاث عشرة سنة، خلّدها في كتابه "جوزيف أنطون". لكن رصاصات الفتوى نالت من حياة عشرات الأشخاص المعنيين بالرواية، من ناشرين ومترجمين لها بعشرات أخرى من لغات العالم.
قنبلة أخرى انفجرت في شباط عام 2006، على جبهة الأصولية السنية، غير مكتملة المعالم كما هي الآن، وهي الرسوم الدانماركية "المسيئة"، بدورها، للرسول. يومها، هاجمت "الجماهير" اللبنانية الغاضبة، على طريقة أخواتها الباكستانيات والهنديات والبنغاليات... في تظاهرة صاخبة، منطلقة من أحد الأحياء الإسلامية في بيروت نحو الحي المسيحي، هاجمت القنصلية الدنماركية وأحرقتها، ولم تفوِّت الاعتداء على كنيسة في طريقها؛ هل حاسبها أحد على ذلك؟
وبعد يوم واحد من هذه "الغزوة"، شهدت دمشق "العلمانية"، وتحت نظر أجهزة مخابراتها وأمنها الصارمَين، تظاهرة مماثلة نحو السفارتين الدنماركية والنرويجية، أشعلت فيهما النيران، وعادت إلى مواقعها سالمة...
هذا النمط من الغضب "الشعبي" لم يكن يهدد أنظمة جاثمة ولا سلطات ديكتاتورية، إنما يحميها؛ لذلك تفرّعت تعبيراته وامتدت، وصارت نوعا من أنواع التقليد... فكان الحريق الذي تعرضت له "شارلي إيبدو"، عام 2011، بعد نشرها لرسوم ساخرة عن الرسول، من العاديات البديهيات؛ كذلك جميع التهديدات التي تلقتها، قبل سطوع "داعش".
لكن الأمر لم يقتصر على "صليبيي" الخارج أو "كفارهم" من روائيين وساخرين ومخرجين أفلام، بل كان للضحايا المحلية من هذه الروح الجديدة نصيب من القتل والافتراء ودعاوى "الحسْبة": ففي أثناء حماية صورة الرسول العربي في الغرب، كان نجيب محفوظ يُطعن بالسكين بسبب إلحاده المزعوم في كتاب "أبناء حارتنا"، وكان فرج فودة يُطعن حتى الموت بسبب كتبه عن الصحابة، ونصر حامد أبو زيد، ونوال السعداوي، ومحمد عبد المعطي حجازي... وغيرهم الكثير من الأقل شهرة، الذين أخرِسوا، أو هُدّدوا، أو أنهم مشوا "بجانب الحائط" طواعية؛ أي الصمت والحذر والخوف بخصوص أي شيء يتعلق بالرسول... إذ أن أية هفوة سوف تفتح أبواب جهنم على مصراعيها... مئات، أو آلاف، بل ربما ملايين من الأصوات أخرست هكذا... وآخرها، دعوة الإمام السلفي الجزائري عبد الفتاح حماداش إلى قتل الروائي كامل داوود بسبب روايته "تحقيق مضاد في ميرسو"، "المسيئة للإسلام"، من دون ردة فعل تذكر للسلطات الجزائرية... وبات العالم العربي لا ينتج، لا يصدّر من الديناميكيات، إلا تلك التي سوف تعلن لاحقا عن حكم "داعش" وأخواتها الجهاديات.
روح العصر العربي الإسلامي، خلال كل هذه السنوات التالية على الثورة الإسلامية في إيران وسقوط الحداثة العربية، ارتدّ إلى العبارات الدينية في علاقته بالغرب وبثقافته، بعدما كانت تسود فيه عبارات "العالم الثالث" الذي يغرف "استقلاله"، من الثقافة الاستعمارية نفسها التي يقاتلها.
في هذه الأثناء، أيضاً، كان المغتربون الآتون من ديارنا يتلقون صعود الظلامية بصفتها هوية أصولهم أو أصول آبائهم، تُنقل لهم ظلاميتها عبر أهل الداخل والشبكات والمساجد والأئمة. وكلما تصاعدت موجات الظلامية الدينية في المنشأ، كان المهاجرون يزدادون عنها درجة، بفضل حنينهم، وفشلهم، ويتحول قسم كبير منهم، خصوصا الشباب، إلى القيام بكل ما يخلّ بالأسس العلمانية والجمهورية والديمقراطية التي قامت عليها أوطانهم البديلة، الأوروبية، والفرنسية خصوصا. فكانت الإسلاموفوبيا، التي لا نتوقف، من شدة كرمنا نحن تجاه الأقرب منا، عن إدانتها وإدانة العنصرية الفرنسية. وكان الأتون، من فعل ورد فعل على جرائم ارتكبها مهاجرون باسم الله ورسوله، وردود عليها بصعود اليمين المتطرف صاحب النظريات الامنية عن المهاجرين.
نحن مسؤولون عن جرائم الإرهاب في ديارنا وديار غيرنا. نحن الذين رعينا أولى نواته، باسم "مقاومة" أو "أصالة" أو "استسلام"، لا فرق. المهم أن جناحينا من الإسلام المتطرف، الشيعي والسني، متفقان على تديين علاقتهما بالغرب؛ وإن حرص الشيعي الآن على الابتعاد عن منطق الإرهاب الذي اعتمده في أولى سنواته "الثورية". "داعش" ساعده على ذلك، وكذلك تغلُّب المصلحة على الإيديولوجيا: مصلحة التغيير من أجل عدم تغيير النظام.
ومع ذلك تجد الببغاوات، من كتاب ومدمني مواقع التواصل، مصرين على تكرار التشفّي بفرنسا، وتحميلها مسؤولية مجزرة "شارلي إيبدو"، بسبب "عنصريتها"، و"سياستها الخارجية" و"رعايتها للإرهاب"... أو، كما حصل في 11 سبتمبر، أن الجريمة "من صنع الصهيونية"... فكان من الطبيعي أن يفوتهم بأن فرنسا اليوم في طريقها إلى أن تكون دولة أشبه بالعادية، لها تقاليدها الكولونيالية، الحميدة في غالبية الأحيان، ولكنها بعدما تراجعت من صفوف الإمبرياليات الكبرى، ها هي مثل لبنان، فقط من حيث أنها بلاد ذات معنى: هي التي اخترعت لنا مفاهيم الحرية الإنسانية، الغالية علينا الآن، وخاضت من أجلها ثورات وثورات مضادة وتمخضات وحروب وتمزقات... وخرجت منها سالمة، أمة أعلنت منذ اللحظات الأولى من وقوع الجريمة أنها لن تفرط بتراثها، وأنها ستخوض معركة حرية السخرية، بصفتها جوهرة الحريات.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)