الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: سنة الدواليب المحترقة

دلال البزري: سنة الدواليب المحترقة

حرق الدواليب في عرض الطرقات ليس بدعة لبنانية خاصة. المحتجون في بعض أنحاء العالم يمارسونه، بعد تظاهرات صاخبة، تشترك فيها المتاجر والنصب بالمصير نفسه الذي يرسمه الحارقون للدواليب. في بعض "الأنحاء" فقط تحضر الدواليب المحترقة، بعد أن تكون الوسيلة الاحتجاجية الأخرى، الأنظف، الأقل قبحاً، قد فشلت في تلبية حاجات المحتجين بوجه أجهزة الدولة، أو ما تشاء من سلطات قائمة. ليس بدعة لبنانية، حرق الدواليب على الطرقات، ولكنه تحول خلال العام المنصرم إلى الوسيلة الأولى للاحتجاج، بل إلى الوسيلة اليومية للاحتجاج؛ ما من يوم مرّ عام 2014 إلا وشهد دواليب تحترق في شارع من شوارع المدن، أو ساحات البلدات أو مداخل القرى.

لماذا؟ لماذا تكون الدواليب المحترقة هي الوسيلة الاحتجاجية الرقم واحد في لبنان؟ الإجابات متنوّعة، بعضها "واقعي" مرجّح، والآخر رمزي محمّل بالمعاني:

أولا، هذه الطريقة بالاحتجاج هي من الصنف الذي لا يحتمل أعدادا جماهيرية، وهي بالتالي لا يمكنها أن تقوم بتظاهرة مهيبة، تهزّ المخيلات الجاسمة خلف التلفزيون. بعض ممن اختص بحرق الدواليب، خلال العام الماضي، لجأ إلى وسيلة أخرى، تعويضا عن نقص العدد، وهي مستوحاة من حركات الاحتجاج التي سادت في "الوول ستريت"، النيويوركية، خلال العام نفسه: وهي تقوم على التمدد على الأرض، بحيث تقطع الطريق تلقائيا.

والعدد القليل المنذور لحرق الدواليب لا يواجه قوة عاتية تسحقه عند أول طلة، إنما قوات من الجيش، تقف على الزاوية، تنتظر اشتعال الدواليب لتطفئها، بعد أن يكون الانطباع المشهدي قد أالتقط، ونُقل إلى عيون المشاهد المرابض أمام الشاشة. قد يكون "الأهالي" الذين قاموا بالحرق ليسوا تماما مستقلين عن الزعامات الطائفية التي تحتضنهم، قد تكون أرخت لهم الحبل، أو أشارت بحاجبها، موافقة... ولكن بالتأكيد، هذه الزعامات عندما تريد أن تجمع حولها جماهيرها، للتعبير عن موقف، هو غالبا سياسي محض، غير مطلبي، لن تكون بحاجة إلى حرق الدواليب.

وحارقو الدواليب هم جزء من كيان هذه الزعامة، ولكنهم "فئة" متضررة، أو قلة، أو مجموعة، لها مطالب محددة، لا يتجاوز عدد أصحاب المصلحة بها العشرات، ولا تستحق تجمعا جماهيرياً... فلتحرق الدواليب، لعلها تنفّس بذلك عن احتقانها، أو تزايد على الطرف الآخر، ، وتبقي على مناكفتها له... إنهم "الأهالي"، المتميزون عن "المجتمع المدني"، الذي يستوحي أساليبه من المجتمع المدني الغربي "المتحضر"، "الراقي"، والذي يفترض أنه "مستقل" عن الإرادات المحلية، والذي لا يمكنه أن يقوم بما يرمز إلى البربرية والعدمية... صحيح أن كل واحد من أولئك "الأهالي" مربوط بقرار زعيم بيئته، ولكن في النهاية عندما يترك في حلبة حرق الدواليب، يعامل بصفته منفصلا عن نظرائه، حارقي الدواليب لأسباب شبيهة، أو متصلة أو حتى أحيانا مباشرة. فتأتي أضحية الدواليب كطقس تنفرد به كل مجموعة لا تتعدى العشرة أو العشرين شخصا، تتململ من أوضاعها، تريد لها حلا، أو إنصافا، وليست على صلة بنظيرات لها، تمولها أو تحنو عليها، كما هو حال منظمات حقوق الإنسان أو المرأة... فتكون الدواليب.

ولكن لحرق الدواليب أبعاداً رمزية إضافية، هي ابنة المخيلة العامة، ومرتكبها ليس غريبا عنها. فالدواليب المهترئة القابلة للحرق هي، على الأرجح، أكثر المواد توافرا في لبنان. فاللبنانيون يمعنون في استهلاك السيارات ودواليبها، ومساحة لبنان وحدها لا تسع كل الخُرْدوات، وليس عنده مصانع إعادة تدوير للمطاط، أسود كان أم أحمر. وبما أن حارقي الدواليب هم مثلهم مثل جميع اللبنانيين مهددين بالتلوث بالمازوت، نتيجة فائض السيارات والموتوسيكلات والمولدات الكهرباء، التي ينبعث منها الدخان السام، فمن الأكثر ترجيحا أن حارقي الدواليب هم انتحاريون على الطريقة البطيئة، هم رسل الإسهاب بالموت، عن طريق تزوديهم الهواء بالمزيد ثم المزيد من التلوث الأسود. عمليات انتحارية يومية ذات نتائج أكيدة، لا تختلف عن نظيراتها الانتحارية "الكلاسيكية" إلا بوتيرتها المديدة.

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)