Thursday 27 November 2025
كتاب الرأي

خديجة الكور: من الطرام إلى قاعة العمليات.. متى تتوقف وفيات الأمّهات عن أن تكون “ثمناً عادياً” للأمومة في المغرب؟

خديجة الكور: من الطرام إلى قاعة العمليات.. متى تتوقف وفيات الأمّهات عن أن تكون “ثمناً عادياً” للأمومة في المغرب؟ خديجة الكور
في صباح خريفي بارد على خطّ طرامواي الرباط–سلا، وضعت ام مغربية طفلها على أرضية المقصورة، بعد أن تمّ، حسب ما تناقلته الصحافة، رفض استقبالها في مستشفى  مولاي عبد الله بسلا الذي توجهت اليه  وهي في حالة مخاض متقدّم. دقائق بعد الولادة، لفظ المولود أنفاسه الأخيرة، لتتحول لحظة كان يفترض أن تكون عنواناً للحياة إلى مشهد موت جماعي رمزي: موت طفل، وجرح عميق في ثقة المواطن في مرفق يفترض أنه “حارس الحياة”. 
 
قبل ذلك بشهور فقط، في مستشفى الحسن الثاني بأكادير، رحلت ثماني نساء في أسبوع واحد بعد ولادة بعمليات قيصرية، في واقعة هزّت الضمير الجمعي، وأطلقت موجة احتجاجات واسعة قادتها بالأساس فئات شابة، رافعة شعاراً بسيطاً وقاسياً في آن: “ لا لمستشفيات الموت ”. 
هذه الحوادث ليست قصصاً معزولة، بل أعراض متكرّرة لخلل بنيوي في منظومة صحة الأم والطفل، ولتصوّر حكومي يعتبر حياة النساء في لحظة الولادة “هامشاً قابلاً للتضحية”.
فرغم التقدّم المحقَّق خلال العقدين الأخيرين، ما زال المغرب بعيداً عن مستوى الطمأنينة الذي تستحقه النساء في غرفة الولادة:
فحسب معطيات البنك الدولي لسنة 2023، بلغ معدّل وفيات الأمّهات في المغرب حوالي 70 وفاة لكل 100 ألف ولادة حيّة، بعدما كان في بداية الألفية فوق 180 حالة، حسب تقديرات الأمم المتحدة وصندوق الأمم المتحدة للسكان. 
 
و تشير بيانات وزارة الصحة المغربية، المستندة إلى “االدراسة  الوطنية للسكان والصحة الأسرية 2018” إلى أن الوفيات انخفضت إلى حوالي 72,6 وفاة لكل 100 ألف ولادة حية في الفترة 2015–2016، لكن الفوارق بين المدن والقرى ما زالت صارخة. 
و على المستوى العالمي، تذكر منظمة الصحة العالمية أن متوسط معدل وفيات الأمّهات في البلدان منخفضة الدخل يصل إلى 346 وفاة لكل 100 ألف ولادة حيّة، مقابل 10 فقط في البلدان ذات الدخل المرتفع، وأن 260 ألف امرأة تقريباً توفين  سنة 2023 بسبب مضاعفات الحمل والولادة، مع تباطؤ واضح في وتيرة التقدّم منذ 2016. 
 
و يحتل المغرب المرتبة 79 عالمياً من حيث معدل وفيات الأمّهات، بحوالي 70 وفاة لكل 100 ألف ولادة حيّة؛ وهذا يعني أن المغرب  أفضل من عدد من الدول الفقيرة، لكنها ما زال بعيدا عن مستوى دول الجوار التي نجحت في خفض المعدّل أكثر. 
 
هذه الأرقام تطرح سؤالاً بسيطاً: إذا كان النظام الصحي قد حقق فعلاً تقدماً، فلماذا ما تزال قصص الترام وأكادير تتكرر بهذا العنف الرمزي؟
 تبين الدراسة الوطنية  للسكان والصحة الأسرية 2018 أن احتمال النجاة يختلف فقط لأن المرأة وُلدت في قرية بدل مدينة و ان نسبة النساء اللواتي حظين بمتابعة ما قبل الولادة من طرف طاقم صحي مؤهّل بلغت حوالي 95–96٪ في الوسط الحضري، مقابل حوالي 80٪ في الوسط القروي. 
 و تصل نسبة الولادات بمساعدة طاقم صحي مؤهّل إلى حوالي 96,6٪ في المدن و 74,2٪ في القرى. 
و لكن تختفي راء هذه الأرقام، قصص يومية لنساء يقطعن كيلومترات طويلة فوق دواب او  شاحنات أو عربات تقليدية، فقط للوصول إلى مستوصف مغلق، أو قاعة ولادة بلا طبيب تخدير ولا قسم إنعاش، أو مستشفى يعتذر عن استقبالهن بسبب “غياب الأطر” أو “الاكتظاظ”.
في ظل  هذه الشروط، تصبح الأمومة في العالم القروي مغامرة غير متكافئة مع الموت: نزيف لا يجد من يوقفه، تسمّم حملي لا يُشخَّص في الوقت المناسب، أو تحويل متأخّر من مركز صحي إلى مستشفى إقليمي دون تجهيزات مواكبة.
و إذا كانت المرأة المتزوجة، المحاطة بأسرتها والمحصّنة قانونياً، غير آمنة خلال الولادة، فكيف يكون الحال بالنسبة للفئات الأكثر هشاشة؟
 لقد أشارت عدة دراسات وطنية أنجزتها بعض الجمعيات إلى أرقام  مقلقة:
ما بين 2003 و2009، قُدّر عدد الأمهات العازبات بحوالي 210 ألف امرأة على المستوى الوطني، أي عشرات الآلاف من الولادات خارج الزواج كل سنة، كثير منها يتم في ظروف صحية واجتماعية شديدة القسوة. 
و تشير تقديرات أخرى الى حوالي 30 ألف ولادة سنوياً لأمهات عازبات، مع نسب مرتفعة من التخلي عن الأطفال في ظل  غياب حماية اجتماعية وقانونية فعالة. 

 
 كما تجد المرأة ضحية الاغتصاب أو الحمل القسري نفسها أمام ثلاثية مميتة:
وصم اجتماعي، فراغ قانوني فعلي في ما يخص المواكبة، وهشاشة صحية تتضاعف بسبب الخوف من اللجوء للمستشفى.
في هذه الحالات، تتحول الولادة إلى عملية سرّية قدر الإمكان، أحياناً خارج المرافق الصحية، مما يزيد من مخاطر النزيف، والالتهابات، والمضاعفات النفسية الحادّة بعد الولادة.
 ان حوادث مثل وفاة رضيع في الترام أو ثماني نساء في مستشفى واحد ليست فقط “أخطاء طبية” أو “حالات معزولة” كما  تروج لذلك بعض البلاغات الرسمية .
من زاوية علم النفس الاجتماعي، هذه الوقائع تخلّف آثاراً عميقة على علاقة المواطن بالدولة لانها ترسخ الا حساس بالهجر المؤسسي: حين تسمع امرأة أن سيدة في حالة مخاض طُردت من باب مستشفى عمومي، فإن الرسالة النفسية التي تتلقاها هي: “إذا انهار جسدي غداً، قد أُرمى أنا أيضاً خارج الباب  و تآكل ما تبقّى من ثقة المواطن في المؤسسا و تغذية الإحباط و الإحساس بأن الدولة “لا تحميك في لحظة ضعفك القصوى” (المرض، الولادة، الشيخوخة) مما  يخلق أرضية خصبة لخطابات راديكالية.
 
بهذا المعنى، يمكن القول إن وفيات الأمهات ليست فقط مأساة أسرية؛ بل هي أيضاً جرح نفسي في العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.
 و إذا كان المغرب قد نجح في خفض معدل وفيات الأمهات مقارنة بالتسعينيات، فإن الشارع اليوم يطالب بأكثر من “تحسين المؤشرات”: يطالب بحق في الولادة الآمنة لكل امرأة، أينما كانت وكيفما كان وضعها الاجتماعي.
و لا بد لاحتواء هدا الوضع و تداعياته من اتخاد عدة تدابير تذكر منها على سبيل المثال لا الحصر،،
-فتح تحقيقات قضائية وإدارية مستقلة في حوادث الترام وأكادير وغيرها، مع نشر النتائج للرأي العام، وربط المسؤولية بالمحاسبة من أصغر مسؤول إداري إلى أعلى مستوى في سلسلة القرار الصح.
- تقوية المستشفيات الجهوية وقاعات الولادة في العالم القروي  و ربط الاستثمار في البنيات التحتية  باستثمار موازٍ ومُلزم في البنيات الصحية الأساسية، وعلى رأسها قاعات الولادة والإنعاش.
 -وضع خريطة وطنية واضحة لـ “النقاط السوداء” في صحة الأمومة (أقاليم تسجل معدلات وفيات أعلى، أو نقصاً حاداً في أطباء التخدير والإنعاش والقِبالة) مع خطط عاجلة لتصحيح الخلل. 
- إعادة الاعتبار والقيمة المهنية للقابلات  من خلال مبادرات التكوين المستمر، تحسين الأجور، وتوفير ظروف عمل إنسانية، خصوصاً في المناطق النائية، لأن منظمة الصحة العالمية تقدّر أن حوالي 80٪ من وفيات الأمهات يمكن تفاديها بوجود قابلات مؤهَّلات ومجهزات ومرتبطات بسلسلة إحالة فعالة. 
-إقرار مسارات آمنة للمتابعة الطبية قبل وأثناء وبعد الولادة الأمهات. العازبات و النساء ضحايا الاغتصاب، تُفصل عن المسار القضائي، حتى لا تصبح المستشفيات فضاء خوف إضافي 
-دعم الجمعيات التي تشتغل ميدانياً مع الأمهات العازبات بتمويل عمومي شفاف، واعتبارهن شريكات في السياسة الصحية وليس فقط “فاعلَيْ خير” يسدّان فراغ الدولة. 
-إدماج البعد النفسي في سياسة صحة الأمومة من خلال توفير مواكبة نفسية للنساء اللواتي يفقدن طفلاً أثناء أو بعد الولادة، ولأسرهن، داخل المستشفيات العمومية، حتى لا تتحوّل الصدمة إلى كراهية صامتة للمؤسسات.
-إدراج مؤشرات الثقة والرضى عن الخدمات في تقييم أداء المستشفيات، وليس فقط عدد العمليات أو نسبة ملء الأسرة,

 ان حياة النساء ليست “تفصيلاً” في مشروع الدولة و ان مشهد امرأة تلد في الترام، أو ثماني جنازات تخرج من باب واحد لمستشفى عمومي في أسبوع واحد، ليس حادثاً عابراً في نشرة الأخبار؛ إنه استفتاء قاسٍ على معنى المواطنة في وطننا.
دولة يقودها  ملك همام  يطمح لبناء مغرب صاعد .عادل. منصف  و دامج و موحد  لن يقبل ابدا  أن تصبح  الأمومة – هذه اللحظة التي تمنح فيها المرأة أعظم ما تملك للحياة – محفوفة إلى هذا الحد بخطر الموت، فقط لأن عنوانها في بطاقة التعريف هو قرية نائية، أو لأنها أم عازبة، أو لأنها لا تملك ثمن عيادة خاصة.
 
المطلوب اليوم ليس فقط “تقليص معدل وفيات الأمهات” على الورق، بل إعلان سياسي وأخلاقي واضح: أن حياة النساء في غرفة الولادة خط أحمر، وأن كل طاقة تُصرف في مسلسل التنمية الترابية يجب أن يوازيها جهد مضاعف في غرف الإنعاش وأقسام التوليد عندها فقط، يمكن  أن نطلب من المواطن أن يثق في المؤسسات الصحية  وأن يسلم لها جسده في لحظات الهشاشة القصوى، دون خوف من أن يعود منها في توابيت.
د خديجة الكور ، رئيسة منظمة النساء  الحركيات