يشكل احتضان مدينة مراكش للدورة 93 للجمعية العامة للإنتربول (التي تضم في عضويتها 196 دولة) تتويجا لمسار طويل من العمل الأمني والدبلوماسي الذي رسخه المغرب، وهو مسار تعزز بشكل واضح منذ تولي عبد اللطيف حموشي الإدارة العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني (15 ماي 2015)، حيث أعاد صياغة مفهوم الأمن في المغرب بمنهج معاصر يقوم على التكوين والانضباط والتطوير والانفتاح والشراكة الدولية.
فمنذ أكثر من 10 سنوات، بدأ المغرب يبني بهدوء وبثبات نموذجا أمنيا جعل منه اليوم فاعلا دوليا لا غنى عنه في معادلة مكافحة التحديات التي باتت تهدد العالم، وهو ما تعكسه بوضوح الثقة التي وضعتها «الإنتربول» فيه، من خلال اختيار مراكش لاحتضان هذا الحدث العالمي البارز.
لقد أدخلت المرحلة التي يقودها عبد اللطيف حموشي مفهوما جديدا للدبلوماسية الأمنية، قائما على أن الأمن لم يعد مجرد مكافحة للجريمة داخل الوطن أو الإقليم، بل أصبح بنية دولية مترابطة عابرة للقارات والحدود، وتحتاج إلى يقظة دائمة وتعاون لا يتوقف. وبهذا التصور، أسس المغرب سياسة أمنية خارجية تعتمد على الانخراط الفاعل في هياكل التعاون الشرطي، وتعزيز جسور التواصل مع الأجهزة الأمنية عبر العالم، وتبادل المعلومات الاستخباراتية وخبرات التكوين الشرطي الحديث، وفق آليات شفافة ومتطورة، مما منحه صورة جديدة بوصفه شريكا موثوقا يحظى باحترام دولي واسع. ذلك أن العلاقات الدولية للأمن المغربي تمثل، اليوم، شبكة واسعة تمتد من أوروبا إلى الولايات المتحدة، ومن الخليج إلى إفريقيا، مرورا بالمنظمات العالمية، بل وصل صداها إلى الصين والهند وسيريلانكا وباكستان والبرازيل وتركيا؛ وهي علاقات تعكس نجاح الدبلوماسية الأمنية في تحويل «الأجهزة المغربية» إلى مؤسسة ذات إشعاع عالمي، لها مكانتها ومصداقيتها واحترامها عبر القارات.
ويمكن تقديم صورة شاملة لهذه العلاقات على النحو التالي:
أولا، علاقات استراتيجية راسخة مع أوروبا، إذ تحتل الشراكات الأمنية بين المغرب ودول أوروبا موقعا مركزيا في الدبلوماسية الأمنية المغربية. فبفضل الجوار الجغرافي والمخاطر المشتركة، يقوم التعاون مع فرنسا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والبرتغال وبريطانيا على تبادل معلومات استخباراتية دقيقة ومستمرة، والمشاركة في عمليات مشتركة، والتنسيق في مكافحة الإرهاب والهجرة السرية وشبكات الإتجار بالبشر والمخدرات.
وقد لعب المغرب دورا حاسما في إفشال عدد من المخططات الإرهابية داخل دول أوروبية، وخاصة في فرنسا وإسبانيا وهولندا، مما عزز مكانته كشريك موثوق ومؤثر، وجعل عدد من هذه الدول توشح عبد اللطيف حموشي بأرفع الأوسمة من قبيل (وسام الصليب الأكبر للاستحقاق للحرس المدني الإسباني؛ وسام الصليب الشرفي للاستحقاق الأمني بتميز أحمر (إسبانيا)؛ ميدالية الشرف الذهبية للشرطة الوطنية الفرنسية؛ وسام جوقة الشرف من درجة ضابط (فرنسا)..).
ثانيا، تعاون وثيق مع الولايات المتحدة؛ ويتجسد هذا التعاون في تبادل المعلومات، والدعم التقني، والتنسيق في مكافحة الإرهاب العابر للحدود، فضلا عن التعاون القائم في مجالات التكوين الأمني الاستخباراتي، وتبادل الخبرات، والتنسيق العملياتي من منظور مشترك، خاصة في مجال التصدي للتهديدات التي تطرحها الجماعات الإرهابية وشبكات الإجرام المنظم في العديد من مناطق العالم، بما فيها منطقة الساحل والصحراء والشرق الأوسط وأوروبا. وهذا ما تترجمه لقاءات عبد اللطيف حموشي مع مختلف رؤساء المصالح الأمنية الأمريكية، وخاصة مع أفريل هاينز مديرة أجهزة الاستخبارات الوطنية، ومع مدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي، كما تترجمه التقارير التي تصدرها الخارجية الأمريكية، فضلا عن مختلف التصريحات التي يقدمها مسؤولو الإدارة الأمريكية، إذ دأبوا على الإشادة بمصداقية ومكانة الاستخبارات والأجهزة الأمنية المغربية.
ثالثا، حضور متنامٍ في إفريقيا، إذ أصبح المغرب، بفضل الدبلوماسية الملكية، لاعبا محورياً داخل إفريقيا. ذلك أن المغرب دأب على تقديم برامج تكوين وتدريب لعدد كبير من الدول الإفريقية، وتشارك في عمليات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة في الساحل والصحراء، كما توفر دعماً لوجستيا ومعلوماتياً لبلدان تحتاج إلى بناء قدراتها.
هذا الحضور جعل المغرب من بين الدول الأكثر تأثيرا داخل الهياكل الأمنية الإفريقية، ومنحته مكانة قيادية داخل الإنتربول على مستوى القارة.
رابعا، شراكات قوية مع دول الخليج والعالم العربي، إذ تعتمد العلاقات الأمنية بين المغرب ودول الخليج على التنسيق في محاربة الإرهاب، وحماية المنشآت الحيوية، ومواجهة الجريمة المنظمة. كما تشكل الروابط التاريخية والسياسية بين المغرب وبلدان الخليج أساسا لتعزيز هذا التعاون. إذ يحظى عبد اللطيف حموشي بعضوية المجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الذي يرأسه وزير الداخلية السعودي، علما أن هذا المنصب الأكاديمي محصور في نخبة ضيقة من المفكرين والمسؤولين السامين والخبراء الأمنيين، الذين يعهد إليهم بمهمة التفكير في تطوير مناهج التكوين والتدريب الشرطي، وتحديث برامج التعليم الأكاديمي الجامعي في سلك الدكتوراه والماجستير في مختلف التخصصات القانونية والتقنية والأمنية.
أما عربيا، فالمغرب يشارك بانتظام في اجتماعات وزراء الداخلية العرب، ويحظى باحترام خاص لما يقدمه من خبرة وتكوين في مواجهة التطرف. وقد حظي حموشي بوسام الأمير نايف للأمن العربي «الدرجة الأولى» الذي يمنحه مجلس وزراء الداخلية العرب.
خامسا، انخراط مؤسساتي واسع داخل الهياكل الأمنية متعددة الأطراف: أصبح المغرب فاعلا دائما في المنظمات الأمنية الدولية، وعلى رأسها «الإنتربول؛ اليوروبول؛ المراكز الدولية لمحاربة الإرهاب؛ التحالفات الإقليمية ضد الجريمة المنظمة». كما يشارك بفعالية في صياغة السياسات الدولية لتحصين الأمن العالمي، ويعتبر من أكثر الدول حضورا في العمليات المشتركة التي تشرف عليها هذه المؤسسات.
سادسا، التعامل مع الطلب الدولي: يظل المغرب منفتحا على العلاقات الدولية المبنية على الثقة المتبادلة. فالدول الشريكة تعرف أن المغرب يقدم معلومات دقيقة وموثوقة، وأن مؤسساته تعمل بمهنية عالية. وقد أدى هذا إلى تزايد الطلب الدولي على التعاون مع المغرب، سواء في مجال التحليل الاستخباراتي أو تطوير القدرات أو الاستجابة للتهديدات المتطورة. إذ أصبح المغرب، مع التغيرات العالمية الكبرى وظهور التهديدات الإلكترونية العابرة للدول، لاعبا مركزيا في المواجهة الدولية لهذه التحديات.
وانطلاقا من هذه الدينامية، أصبح المغرب اليوم بلدا قادرا على استضافة التظاهرات الدولية الكبرى المرتبطة بالأمن، ليس فقط لاعتبارات لوجستية أو تنظيمية، بل لأن صورته كبلد آمن ومستقر صارت ثابتة وموثوقة. وما تنظيم كأس إفريقيا 2025، والاستعداد المشترك لتنظيم كأس العالم 2030، إلا تأكيد إضافي على قدرة المملكة على الجمع بين الاستقرار الأمني والفعالية التنظيمية، وهي عناصر تمنحها مكانة خاصة لدى المجتمع الدولي. كما أن هذا المناخ الأمني الإيجابي لم يكن نتاج الصدفة، بل هو ثمرة سياسة واعية جعلت من الأمن دعامة أساسية للتنمية وجاذبية الاستثمار.
لقد أصبح المغرب، تبعا لكل هذه التراكمات والنجاحات، نقطة ارتكاز أساسية في الشراكات الأمنية والتعاون الدولي. كما برز بشكل واضح داخل المؤسسات الأمنية العالمية من خلال حضوره داخل الإنتربول، سواء عبر مشاركته النشطة في العمليات الدولية أو توليه مناصب قيادية إقليمية داخل المنظمة. كما أصبح الفاعلون الأمنيون الدوليون ينظرون إليه باعتباره قوة استقرار في محيطه الإقليمي، ودولة ذات تأثير واسع في نشر الممارسات الجيدة في التكوين، والتدريب، وتعزيز القدرات الأمنية داخل القارة الإفريقية.
وتبعا لذلك، يشكل حضور الإنتربول في مراكش تتويجا لمسار من «النجاحات الأمنية» التي صاغها المغرب بعناية وحكمة، وهو مسار تجسدت معالمه في الرؤية التي قادها عبد اللطيف حموشي، والتي جعلت من المغرب اليوم فاعلا مؤثرا في حماية الأمن الإقليمي والدولي، ومركزا رئيسيا للتنسيق، ومنصة للتعاون بين القارات. كما يأتي تنظيم هذا المؤتمر اعترافا بأن المغرب صار شريكا مركزيا داخل الشبكة العالمية للأمن، وبأن تجربته أصبحت مرجعا يمكن البناء عليه من أجل محاربة الإرهاب، وملاحقة شبكات الهجرة السرية والاتجار في البشر والاتجار بالمخدرات، وإعلان الحرب على الجريمة المنظمة التي أصبحت عابرة للقارات، مما يؤكد أن الأمن المغربي أصبح جزءا مؤثرا في البنية الأمنية العالمية، وشريكا رئيسيا في مواجهة التحديات العابرة للقارات..
تفاصيل أوفر تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"