كانت النفسية في الحاجة إلى سفر آخر لا يشبه سفرياتي السابقة على صهوة خيول التبوريدة عبر مختلف مواسم ومهرجانات وطننا العزيز، خصوصا أن رفيقة الدرب "لَالَّةْ مَسْعُودَةْ" الرحمانية اختارت رفقة ولدنا أيمن اليوسفي السفر وقضاء أيام بعيدا عن جدران مختبر روتين الحياة اليومية وما إليها من نمطية قاتلة. فكانت الوجهة مدينة الصويرة البهية والهادئة.
احتضنتنا زرقة السماء، وأصوات غناء النوارس، ونحن نسير وسط أزقة المدينة القديمة بأبواب وأقواس بناياتها ومعمارها وهندستها الرائعة، هنا حيث توزع الإبتسامة مجانا على وجوه الناس الطيبة، تشعر بفيض من الحب والعشق يسري في عروقك كسهم قوس يقتنص فرصة اختراق عواطف وجدانية لتحقق إعادة ترتيب عقارب الزمان والمكان على سلم معاني الحياة النابضة بالفرح والجمال.
في كل زاوية من زوايا منصات استقبال الزبناء وسط دروب "موكادور"، يستقبلك الناس ببشاشة، وبابتسامتهم الساحرة، يرحبون بك وبعائلتك بكل الكلمات الطيبة، قبل الخدمة المطلوبة والمرغوب فيها، تجد نفسك في حضن "قُبَّةْ الضْيَافَةْ" التي تبهجك إنارتها وأضوائها التي تزين هندستها وأثاثها وأفرشتها المستوحاة من كرم الطبيعة وبساطتها السهلة والممتنعة.
مختلف الوجبات سواء الخفيفة أو الدّسمة التي اخترنا إطعام معدتنا بها، كانت بلمسة ونكهة تمغربيت، حيث أطباق الأكل بنفس مغربي وتوابل تفوح بعطرها الساحر، إذ لا يمكن أن تتناول الطعام دون أن يجلس بالقرب منك سائح وسائحة أجنبية بمنتهى التقدير، وكأن "ملح الطعام" المشترك المغربي يفرض طقوسه في لحظة مقدسة تزول فيها الفوارق الطبقية ويذوب فيها نوع الجنس والعرق واللون والدين. إنها مدينة تمثل نموذج مفهوم التعدد والاختلاف والقيم الإنسانية المشتركة كونيا بتقاليدها وعادات الوافدين عليها من كل بقاع العالم.
هذا التعدد الثقافي والفني والإيمان بالمشترك، تجسده ساحة المدينة التي يقبل عليها الناس كبارا وصغارا نساء ورجالا، بمختلف أحاسيسهم وعواطفهم الوجدانية، لمعانقة كل الأنماط الموسيقية والغنائية والفنية والتراثية، حيث يمتزج إيقاع وعزف المجموعات الغيوانية... وغير بعيد عن هذا الركح الفرجوي تجد شبابا مهووسا بأنماط أخرى غربية وإفريقية وأمازيغية...يقدمون أغانيهم بدون قيد أو شرط وكأنهم خلقوا لإسعاد الجمهور.
في هذا السياق، رتبنا لحظة من لحظات الاستمتاع بـ "طَرْحْ كْنَاوِي" على اعتبار أن موسيقى ﮜناوة علاج للنفس وتطهير للروح والجسد، فكان الإختيار موفقا عند فضاء "ميـﮜا لُوفتْ" بالإضافة إلى فضاء "سَلِي مَارُوكْ"...كانت جلسة عائلية حضر فيها مفهوم "الجَّدْبَةْ" حيث امتزج الإيقاع لكناوي بأوتار الْهَجْهُوجْ والقيثار وقْرَاقَبْ الْحَالْ، وتمايل الجسد طربا وانتشاء، وحلقت الجوارح في سماء موكادور التي عالجتنا جميعا وسط مختبر الفن والإبداع وحسن الضيافة والاستقبال. وتقاسمنا الفرصة الجميلة مباشرة مع باقي أفراد الأسرة عبر عالم الرقميات الذي يقرب المسافات البعيدة.
سرْنا ومشينا عبر طرقات أزقة الصويرة التي تضج بالحياة والحركة الاجتماعية والاقتصادية، كل الأشياء التي تباع وتشترى تنبعث منها رائحة الحب وعبق الحضارة المغربية، على اعتبار أن المقتنيات "التجارية" بكل أشكالها الفنية والتراثية والثقافية تشكل ذاكرة للمكان والزمان، وتبعت الروح، وتجدد خلايا المناعة ضد كل أشكال الألم والمعاناة، وتساهم في تمتين أواصر الروابط الاجتماعية بين مختلف الأقوام والأجناس والأعراق، فلا فرق هنا بينك وبين الآخر إلا بما تملكت من قيم الأخلاق والنبل والتسامح والتضامن.
حين اخترنا تناول وجبة الفطور على الواجهة البحرية "كانت وجبة مغربية مائة في المائة"، احتضننا شاطئ فضاء "بانوراميك" الجميل بخدماته وطريقة استقبال ضيوف الأرض والمكان، كان كل شيء يوحي بأن بلدنا قد قطع أشواطا رائدة في خدمة السياحة الداخلية والخارجية. هنا العين تحتار في التقاط مشاهد الفرح والسعادة التي رسمت على وجوه الأجانب من كل بقاع العالم وهم مندمجون معنا بكل أريحية هنا والآن بموكادور العالمية.
الجميل أن الفضاء يغري بالزيارة المتكررة، وممارسة رياضات رائعة، مثل ركوب الخيل، وامتطاء الإبل، والدراجات النارية الرباعية العجلات، وركوب الأمواج والمشي فوق رمال الشاطئ. حيث اختار أيمن اليوسفي امتطاء صهوة فرس جميل انطلق به كالسهم على جنبات الشاطئ، في حين اختارت رفيقة الدرب أن تمشي فوق بساط الرمال، أما أنا فقد قررت كتابة هذا المقال الذي خرج من أعماق القلب وبأنامل تعزف لحن جمال المغرب وعلو كعب مدينة اختارت أن تكون نموذجا للمدن السياحية العالمية.

