بالندقية ننال الحرية… شعار رفعته جبهة البوليساريو منذ أواسط السبعينيات، وهو شعار ولد في رحم الفوضى الإقليمية التي غذّتها حرب باردة مقيتة بين معسكرين متناحرين.
في تلك الفترة، استغل العقيد معمر القذافي وهواري بومدين طيش بعض الشباب المغاربة المنتمين للأقاليم الجنوبية، والذين كانوا يدرسون بالجامعات المغربية، وزينوا لهم وهم "الثورة" والانفصال، ظانين أن تفجير المنطقة سيضعف المغرب ويمنح الجزائر منفذاً نحو البحر بالحيط الأطلسي. لكنّ تلك الحسابات كانت خاطئة، لأن المغرب لم يكن دولة رخوة ولا أمة منقسمة، بل شعباً موحداً التفّ حول ملكه، وكانت المسيرة الخضراء سنة 1975 أقوى صفعة في وجه الدول الشمولية ودعاة الفتنة والانفصال.
تخيلت البوليساريو والجزائر أن الحرب ستكون نزهة، وأن شعار "بالندقية ننال الحرية" سيمنحهم دولة من سراب. فبدأت حرب بالوكالة، الجزائر تموّل وتسلّح وتدير، وليبيا تمول وتدرب و"ولاد الصحراويات" يُزجّ بهم في لهب الحرب و معارك لا تخصهم. ومع كل هزيمة ميدانية، لجأت البوليساريو إلى إستجلاب المرتزقة الأجانب من شمال موريتانيا ومالي وجنوب الجزائر لتعويض نقصها البشري. لكنّ المملكة المغربية كانت أذكى من أن تُستنزف، فطرح الملف على الأمم المتحدة، وأوقفت مسرحية "الاستفتاء" التي كانت تُعدّها الجزائر غطاءً لتقسيم التراب المغربي. ومنذ ذلك الحين، تهاوت قيادة البوليسارية عسكريا وديبلوماسياً وسياسياً واجتماعياً، فيما تقدّمت بلتدنا بخطى ثابتة نحو البناء والتنمية.
المملكة المغربية لم تكتفِ بانتصارها العسكري، بل راهنت على الإنسان الصحراوي الغيور على ارضه وعرضه، فعمّرت الصحراء وشيّدت المشاريع والموانئ والمدن الحديثة. اليوم، وبعد مرور خمسين سنة على المسيرة الخضراء المظفرة، يحق لكل مغربي أن يفاخر بما تحقق على أرض أقاليمه الجنوبية من نهضة وعمران. فبينما غرقت الجزائر في أزماتها الداخلية وصراعات جنرالاتها، كانت الأقاليم الصحراوية تتحول إلى نموذج في الأمن والاستقرار والازدهار. هذا هو البعد الاستراتيجي للمملكة، التي فهمت أن التنمية هي السلاح الأقوى في معركة الشرعية والسيادة.
أما البوليساريو، فما زالت عالقة في مستنقع الوهم، تعيد تكرار شعارات باردة مثل مقترحها الكئيب الذي سمته "فاتورة السلام"، وتتصرف بعقلية سبعينية عفى عنها الزمن. لا استقلال لديها في القرار، فهي أسيرة الجنرالات الجزائريين الذين يستعملونها ورقة ضغط مهترئة. يعيش رجال ونساء الصحراء الفضلاء على المعونات ، وتتاجر القيادة القبلية الفاشلة للبوليساريو بمعاناة الصحراويين في مخيمات تندوف، حيث البؤس والإذلال وغياب الأمل. هل هذه هي الحرية التي وعدوا بها؟ أم هي عبودية جديدة تحت أقدام العسكر الجزائري؟، بفيافي الحمادة القاسية.
من رحم هذه المعاناة، وُلد صوت جديد عاقل ووازن: حركة صحراويون من أجل السلام. هذه الحركة تمثل جيلاً واعياً كسر قيود الماضي ونفض الغبار عن الشعارات الصدئة. أدركت أن الحرب لا تجلب إلا الدم والدمار، وأن السلام الناقص خير من الحرب العادلة، وأن مصلحة الصحراويين فوق مصلحة جنرالات الجزائر. لقد أعادت الاعتبار للفكر الواقعي وللخيار المغربي القائم على الحكم الذاتي، وهو الحل الوحيد العادل والممكن لإنهاء هذا النزاع المفتعل.
اليوم، وبعد نصف قرن من التضحيات والمكائد، تغيّرت موازين القوى. فالمغرب يملك الأرض والجو والشرعية، والجزائر تغرق في العزلة والضغط الدولي المتزايد. لم تعد "الأراضي المحررة" سوى أراضٍ محرّمة على المرتزقة من ابناء مالي وجنوب الجزائر، المنخرطين بميلشيات الجبهة، وغادر الشباب الصحراوي القادر على القتال إلى مدن أوروبا وإلى موريتانيا طلباً للعيش الكريم بعدما سئموا من أكاذيب القيادة لخمسين سنة مضت. انتهى زمن البندقية، وبدأ زمن العقل والمشاريع والمصالح المشتركة. لقد هُزم شعار الحرب، وانتصرت واقعية الدولة المغربية بثباتها ورؤيتها الاستراتيجية.
لقد آن الأوان لجبهة البوليساريو أن تطوي صفحة شعاراتها البالية وشعارها البائس "بالبندقية ننال الحرية"، وأن تتحرر من وهم السلاح لتلتحق بركب الواقعية والعقلانية. فالمغرب، بقيادة ملوكه العلويين وبإجماع شعبه الوفي، قدّم للعالم مشروع الحكم الذاتي كأفق سياسي حضاري، وكحلّ واقعي يحفظ كرامة الصحراويين ويضمن لهم تدبير شؤونهم في ظل السيادة المغربية. هذا المشروع ليس تنازلاً بل هو رؤية ملكية استباقية تعكس حكمة الدولة المغربية وحرصها على السلام والتنمية بدل الحرب والدمار.
إن شعار اليوم الذي ينبغي على الصحراويين التشبث به هو ما عبّر عنه المثل الحساني: "النص مع لهنا زاكي"، أي أن نصف الحل مع الأمن والاستقرار خير من وهم "الحرية" عبر الخراب والضياع. لقد أثبتت التجربة أن المغرب انتصر بالحكمة لا بالرصاص، وبالمسيرة الخضراء لا بالبندقية، وأن مشروع الحكم الذاتي هو الطريق الوحيد لإنهاء المعاناة وفتح أبواب التنمية والكرامة.
أما الجزائر وبيادقها في القيادة الفاشلة، فلم يبقَ أمامهم سوى الاعتراف بأن رهانهم كان خاسراً منذ البداية، وأن الصحراء كانت وستظل مغربية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.