في مغرب اليوم الذي يصنع ملامحه الملك محمد السادس، برؤيةٍ استباقيةٍ عميقة، لم تعد العدالة المجالية مجرّد شعارٍ أو طموحٍ تنموي؛ بل تحوّلت إلى ركيزة سيادية في فلسفة الحكم، وإلى مبدأ مؤسس لمعادلة التنمية والتوازن الترابي. إنها ليست مجرّد هندسة إدارية للمجالات، بل رؤية وجودية لبناء الدولة المتصالحة مع جغرافيتها، ومع إنسانها، ومع ماضيها ومستقبلها.
ولعلّ من تجليات هذه الرؤية الملكية ما شهده المغرب من سياسات ربط متقدمة، سواء عبر شبكات الطرق السيارة، أو مشاريع القطارات السريعة، أو الخطوط الجوية الداخلية التي تؤسس لمغرب مترابط ومتوازن، متحرّر من منطق “المركز والهامش”، ومؤمن بأن المجال ليس حدودًا بل أفقًا للوحدة الوطنية.
ومن هنا كان إطلاق الخط الجوي الرابط بين العاصمة الرباط ومدينة الصويرة حدثًا ذا رمزية مزدوجة: رمزية سياسية تؤكد إرادة الدولة في دمقرطة التنمية وربط المدن الصغرى بالمراكز الكبرى، ورمزية ثقافية تعبّر عن وفاء المغرب لهويته التعددية وعمقه الحضاري المتنوع.
فالصويرة ليست مدينة عادية؛ إنها ذاكرة مفتوحة على البحر، ومختبر للتعايش والعيش المشترك، وجسر بين الروح المغربية والعالم. على مدى عقدين، نهضت هذه المدينة لتصبح فضاءً للفن، وللسياحة الثقافية، وللدبلوماسية الناعمة، محتضنةً مهرجانات كبرى مثل “كناوة” و“الأندلسيات الأطلسية”، ومُشكّلةً واجهةً راقية لصورة المغرب المنفتح، المتعدد، والمتوازن.
غير أنّ ما يُتداول اليوم عن نية الشركة المعنية بوقف هذا الخط الجوي الحيوي يشكّل انزياحًا مؤلمًا عن روح الرؤية الملكية، وتراجعًا عن فلسفة العدالة المجالية التي لا ترى في المجال مجرّد جغرافيا، بل كيانًا سياسيًا يجب أن يُنصف، ويُدمج، ويُفعّل في الدورة الوطنية. فإلغاء هذا الخط ليس قرارًا تقنيًا كما قد يُصوَّر، بل فعلٌ رمزيٌ يمسّ جوهر العدالة، ويعيد إنتاج الفوارق الترابية التي تسعى الدولة إلى تجاوزها.
كيف يُعقل أن نتحدث عن مغرب الأطلسي وعن مشروع الربط الاستراتيجي بين مدن الساحل والمحيط، فيما تُعزل إحدى المدن الأطلسية الأكثر حيوية وارتباطًا بالهوية المغربية عن عاصمتها؟ أليس في هذا تناقض صارخ مع ما دعا إليه جلالة الملك في خطبه المتتالية من ربط المدن الساحلية والجبلية والمناطق البعيدة بشبكات عصرية للنقل والتواصل؟
إن ما يحدث يُعبّر عن خلل في منطق الفعل المؤسساتي، حيث تُختزل قضايا التنمية في حسابات ضيقة، متناسية أن العدالة المجالية ليست مسألة نقلٍ أو بنيةٍ تحتية فحسب، بل مبدأ سيادي يؤسّس لشرعية الدولة الحديثة ويضمن تماسكها الوطني. فمن دون توازنٍ مجاليٍّ عادل، لا تنمية حقيقية ولا وحدة فعلية.
لقد أكد المجلس الوزاري الأخير بما لا يدع مجالاً للشك أن الرؤية الملكية تتجه نحو تفعيل مشاريع الربط بين المدن الصغرى والكبرى، ومواجهة الهشاشة المجالية، وإعادة توزيع فرص التنمية بعدالة وواقعية. وأي قرارٍ يخالف هذا التوجه إنما هو خرق لجوهر المشروع الملكي، وإضعاف للثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
إن العدالة المجالية اليوم ليست ترفًا مفاهيميًا ولا مطلبًا محليًا، بل ضرورة وجودية لبقاء الدولة في صورتها المتماسكة والمتوازنة. فالمجال الذي يُعزل هو مجتمع يُقصى، والمجال الذي يُربط هو وطن يُبنى.
إن الدفاع عن الخط الجوي بين الرباط والصويرة هو دفاعٌ عن مبدأ استراتيجي في الدولة المغربية، وعن رؤية ملكية تريد لكل مدينة مهما صغر حجمها أن تكون جزءًا من دورة الحياة الوطنية وليست هامشًا لها.
فالمغرب الذي يمدّ جسوره نحو إفريقيا وأوروبا عبر الأطلسي، لا يمكن أن يسمح بانقطاع خيط التواصل بين رباط المملكة وصويرة التعددية، لأن العدالة المجالية ليست مجرد توازنٍ جغرافي، بل هي عنوان السيادة في بعدها الإنساني والسياسي العميق.