(استلهامًا من شهادة مسؤول سابق بوزارة الصحة )
تتكرر المشاهد نفسها في أروقة المستشفيات العمومية، وفي قاعات العمليات والمكاتب الإدارية.
بين الغياب المتكرر، والممارسة غير القانونية، والعمولات السرية، والرشوة، تتنامى ممارسات تُلطّخ صورة المنظومة الصحية المغربية وتُبطئ مسار إصلاحها.
انحرافات لا يمكن اعتبارها حالات معزولة، بل هي انعكاس لاختلال هيكلي عميق، تغذّيه التساهلات، وضعف المراقبة، وبطء الآلة الإدارية.
واقع مرّ... لكنه معروف
يقول مسؤول سابق في وزارة الصحة:
-"ما نشره زميلي سّي ح. على مواقع التواصل ليس سوى صورة صادقة لواقع مرّ نعيشه منذ سنوات."
فالحقائق صادمة: بعض المهنيين في القطاع الصحي — من أطباء وممرضين وتقنيين — يساهمون، دون أن يدركوا، في إضعاف النظام الذي يفترض أن يدافعوا عنه.
بين العمل غير المصرّح به، والممارسة غير القانونية في القطاع الخاص من طرف أطباء القطاع العام، والانحرافات المرتبطة بنظام الـTPA، أو الغيابات المتكررة، تمتدّ قائمة التجاوزات الأخلاقية والمهنية دون نهاية.
الممارسة غير القانونية: منطقة رمادية خطيرة
كثير من أطباء القطاع العام يعملون في الخفاء داخل مصحات خاصة، أحيانًا دون ترخيص أو تغطية قانونية واضحة.
هذه الممارسة، وإن كانت تُغضّ عنها الأطراف الرسمية، تُهدّد سلامة المرضى وتُضعف أداء المستشفيات العمومية.
إنها تُجسّد ثغرتين واضحتين:
قوانين موجودة لكن تُطبّق بانتقائية، ومجالس مهنية ما تزال مترددة او غائبة في ممارسة سلطتها التأديبية.
الفساد... الداء المزمن في الجسد الصحي
أخطر من كل ذلك، يستشري الفساد في أروقة القطاعين العام والخاص معًا.
يتخذ أشكالًا متعددة: عمولات، فواتير مضخّمة، ملفات طبية وهمية، أو توجيه المرضى نحو المصحات الخاصة مقابل مكاسب خفية.
هذه الممارسات، المعروفة لدى الجميع تقريبًا لكنها نادرًا ما تُعاقَب، تقوّض ثقة المواطن في المستشفى العمومي، وتُشوّه صورة المهنة الطبية بأكملها.
كما أنها تُضعف الحوكمة وتُفرغ الإصلاحات من مصداقيتها.
الغياب وهجرة الأطر... نزيف مزدوج
في كثير من المستشفيات، أصبح الغياب ظاهرة عادية تُمارس في صمت.
بعض الأطباء يجمعون بين وظائفهم العمومية ونشاطاتهم الخاصة، على حساب المرضى الذين ينتظرون بلا متابعة.
وفي المقابل، تتسارع وتيرة الهجرة:
أطباء وممرضون وتقنيون يغادرون نحو القطاع الخاص أو الخارج بحثًا عن ظروف أفضل.
أما القطاع العام، فيبقى عاجزًا عن الاحتفاظ بالكفاءات أو ضمان استمرارية الخدمات.
إصلاحات جارية... لكنها هشة
وزارة الصحة أطلقت في السنوات الأخيرة سلسلة من المبادرات:
تعزيز الشفافية، إصلاح الحكامة، رقمنة تتبع الموظفين، تشديد مراقبة الغيابات والتراخيص.
غير أن هذه الإصلاحات تبقى شكلية ما لم تُصاحبها ثورة أخلاقية.
فكما يقول المسؤول السابق لوزارة الصحة :
-"لا إصلاح هيكليًّا دون إصلاح أخلاقي."
محاربة الفساد والانحراف المهني تتطلب تعبئة جماعية قائمة على النزاهة والمسؤولية وروح الخدمة العامة.
ثلاثة دروس للإدارة الحالية:
1. وضع حدّ للتسامح الصامت
القوانين موجودة، لكن تطبيقها انتقائي.
لابد من إجراءات تأديبية صارمة، وآليات لتتبع نشاط الأطباء في القطاع العام.
2. إعادة المصالحة بين المهنيين والخدمة العمومية
تحسين الأجور وظروف العمل، وتقدير الكفاءات، هو السبيل لجعل النزاهة ثقافة دائمة لا شعارًا مؤقتًا.
3. مأسسة الشفافية
نشر مؤشرات الأداء، التصريح بالمصالح الشخصية، وضمان الشفافية في التعيينات والمسؤوليات — كلها خطوات تعيد الثقة المفقودة.
مسؤولية مشتركة... وضمير مطلوب
إصلاح المنظومة الصحية لا يقتصر على بناء المستشفيات وشراء التجهيزات،
بل يبدأ من إعادة بناء الثقة.
فما دامت الغيابات، والمحاباة، والمصالح الشخصية تُسيّر بعض الزوايا،
فلن تكتمل أي إصلاحات مهما كانت جودة القوانين.
يختم المسؤول السابق قوله:
-«الصحة العمومية لا تُصلَح بالمراسيم، بل بضمير أولئك الذين يخدمونها.»