لا نعتقد أن مهرجانا سينمائيا دوليا يُقَامُ على طول البلدان العربية يثير من الجدل والصخب والانتقاد، أكثر مما يثيره المهرجان الدولي للفيلم بمراكش. والسبب يعود إلى التصور العام للمهرجان الذي ورثت إدارته الفرنسية "ميليتا توسكان ذي بلانتيي" (Mélita Toscan Du Plantier)، ويقوم بإدارته الفنية الفرنسي "برينو بارد" (Bruno Barde)، وذلك ما يعني أن جوهر المهرجان لا تتحكم فيه كفاءات مغربية.. الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال على مستوى الأولويات والتوجهات.. فإذا كان المغرب قد رفع شعار المغربة منذ الخروج العسكري للاستعمار الفرنسي، فإن تبعات التبعية الثقافية تظهر جلية من خلال فلسفة مهرجان مراكش الذي لا ينفتح ضمن برنامجه العام على السينما المغاربية والإفريقية والعربية.. خاصة وأن مهرجانات عربية أخرى كمهرجان القاهرة السينمائي الدولي تضع في حسبانها هذا البعد الثقافي والهوياتي. فمن المعروف أن المغرب يساهم في إنتاج بعض الأفلام الإفريقية ولكن ما يحضر منها يسير عكس تلك المقاربة، بل يحكمه تصور آخر ينبني على منطق الإنتاج المشترك (جنوب - جنوب)، إضافة إلى أن الفيلم المغربي المشارك في المسابقة الرسمية لهذه السنة ("جوقة العميان" للمخرج محمد مفتكر) إنتاج مشترك بين المغرب وفرنسا، ونفس الأمر بالنسبة للفيلم الإفريقي الذي يوجد خارج المسابقة ("تومبوكتو" لعبد الرحمان سيساكو).. وذلك ما يسري على جل الأفلام المبرمجة داخل المسابقة وخارجها.. هناك صلة ما تجمعها بالوسيط الفرنكفوني!
تتعامل إدارة المهرجان مع المهنيين والصحافيين والنقاد المغاربة بنوع من التمييز.. فإذا كنت مقربا من بعض الأطراف التي تُسَيِّرُ المهرجان فأنت مُرَحَّبٌ بك، وإذا كنت من المنتقدين فقد تجد صعوبات جمة حتى في الحصول على "بادجات" الدخول الخاصة بالمهنيين (ولو كنت من مدينة مراكش!). فبعض النقاد يحملون "بادجات" المهنيين وبعضهم لا، وقس على ذلك بالنسبة لبقية الفئات.. فهل يُعْقَلُ أن يحصل الناقد على "بادج" خاص بالجمهور، وليس له الحق لا في "الكاتالوغ"، ولا في حفلات التكريم، ولا دعوات الافتتاح والاختتام..؟! لا يمكن أن نفهم ذلك خارج عقلية العقاب والانتقام والتمييز.. فهل يتعامل مهرجان "كان" السينمائي -الذي يقال بأن مهرجان مراكش نسخة مصغرة منه!- مع المهنيين بهذه الطريقة؟ وهل يمكن أن نتصور مهرجانا منغلقا على المغاربة ومنفتحا على الأجانب؟ لقد صارت الجالية الفرنسية المقيمة بمراكش أكثر حالا من المهنيين المغاربة...
نلاحظ بأن المهرجان يميل أكثر إلى تكريم الممثلين والمنتجين، وخاصة أولئك الذين اشتهروا بالقيام بتنفيذ وإدارة الإنتاجات الأجنبية بالمغرب، ونستشف بأن المغزى الاقتصادي واضح، ولا عيب في ذلك، لكن المطلوب من هؤلاء الانخراط في تمويل أفلام مغربية وصرف جزء من المداخيل التي تذرها الأفلام الأجنبية لتطوير السينما المغربية.. ولا نقصد من قولنا هذا غمط مجهودات هؤلاء وخاصة على مستوى جلب العملة الصعبة، وتشغيل فئة كبيرة من الناس.. ألا تثير ندرة تكريم المخرجين المغاربة في المهرجان تساؤلات كثيرة من قبيل: ألا يعني هذا عدم الاعتراف بنبوغهم وكفاءتهم؟ ألا يوجد في المغرب مخرجون يستحقون التكريم بشكل سنوي؟
تنعقد دورة هذه السنة وسط تفاؤل كبير بفعل مشاركة فيلم "جوقة العميين" للمخرج محمد مفتكر الذي أبانت أفلامه الروائية القصيرة الأربعة وفيلمه الروائي الطويل "البراق" عن علو كعبه في مجالات السينما، وهي الأعمال التي جعلت منه مخرجا منشغلا بالتفكير بالصورة، والرقي بالمتفرج إلى مستوى الإدهاش.. مهما تكن جودة الفيلم وإبداعيته، فالمتتبعون لتاريخ المهرجان يسجلون مشاركة بعض الأفلام المحسوبة على المغرب في مسابقاته الرسمية مما يقوض مجهودات المخرجين المغاربة المحليين، ويضرب مصداقية السينما المغربية كصناعة محلية صاعدة.
يتضمن البرنامج ضمن فقرة "نبضة قلب" أفلاما مختلفة عما كان المهرجان يبرمجه سابقا حيث يخلط بين السينما التي أَلِفَهَا جمهور المهرجانات وجمهور القاعات، ويتناقض مع الأفلام التي يبرمجها في المسابقة الرسمية وعلى هامش التكريمات.. وهنا تظهر ضبابية الرؤية على مستوى البرمجة، وعلى مستوى التصور العام للمهرجان كنشاط سينمائي مغاير يقترح الأفلام التي لا يمكن للجمهور أو يصعب عليه مشاهدتها عبر القنوات التسويقية العادية كما أنه من المفروض أن يرقى بالذوق ويحرك شهية النقد والتأمل وتطوير الذات عبر التعرف على رؤى أخرى تقترحها الأفلام المبرمجة...
من أقوى لحظات مهرجان مراكش ما صار بمثابة التقليد الذي راكمه عبر فقرتين هامتين: الأولى تتعلق بلقاءات "الماستر كلاس" التي يقدم من خلالها صناع السينما والمشتغلين عليها من مخرجين وتقنيين ونقاد وفلاسفة.. تصوراتهم للإبداع السينمائي وكشفهم للفلسفة التي يمكن أن تتحكم في ميلاده.. وتتعلق الفقرة الثانية بمسابقة "سينما المدارس" التي تقدم أفلاما قصيرة من إنجاز طلبة المعاهد والمدارس والكليات المغربية بالقطاع العام والخاص للظفر بجائزة المهرجان التي يتمكن الحاصل عليها من إنجاز شريطه السينمائي القصير الجديد.. إنها فرصة للاطلاع على مستوى التكوين السينمائي بالمغرب الذي يطرح بدوره أكثر من نقطة استفهام بفعل تداخل مستوياته، فالمهرجان فرصة لمعرفة ما يعتمل من أفكار لدى مُكَوِّنِيهِ ومتلقي برامجه...
نور الديل الصايل الرئيس المنتدب لمؤسسة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش رفقة زوجته نادية لاركيط
يحتفي المهرجان كل سنة بسينما بلدٍ معين، وستحل السينما اليابانية بتاريخها العتيد ضيفا فوق العادة على متتبعي فعاليات المهرجان الدولي للفيلم بمراكش لكونها تحمل أكثر من مغزى، نتمنى أن يدرك المنتمون لهيئة تسيير المهرجان دلالاتها العميقة، فهي السينما التي حققت معادلة صعبة في مجتمع له خصوصية ثقافية توازي بين الأصالة والمعاصرة، فقد لعبت السينما دورا حيويا في عكس هذه التجليات عبر المنجز الباهر لمخرجين مبدعين من أمثال "ياسيجيرو أوزو" و"كينزي ميزوگيشي" و"أكيرا كوروزاوا" و"شوهي إيمورا" و"طاكيشي كيتانو".. وغيرهم.
يُرَوِّجُ بعض المهتمين بالشأن السينمائي أطروحة مفادها أن المهرجانات التي تنظمها بعض الدول غير المنتجة للسينما هي مجرد دعاية (بروباغندا) وبهرجة، ولكن ما بالك بأن المغرب يُنْتِجُ أكثر من عشرين فيلما روائيا طويلا وما يزيد عن خمسين فيلما روائيا قصيرا، ولا يظهر من تلك الأفلام إلا النزر القليل أو تلك التي لا ترقى إلى المستوى الفني المطلوب؟!
لا يمكن أن ننحاز إلى أعداء المهرجان، ولا إلى دعاة الخبز عوض المهرجان.. ولكننا ندافع عن مغربة المهرجان، وعن حضور السينما المغربية فيه، وعن عدم إقصاء المهنيين والنقاد.. فالمهرجان مكسب للسينما المغربية، وفرصة حقيقية للترويج لها ولثقافة البلد المتعددة (إفريقية، مغاربية، أمازيغية، عربية، متوسطية، إسلامية...) ولا يمكن تمريرها عبر غربال الفرنكفونية ذات النظرة والحسابات الضيقة.. فمتى سيعي أبناء البلد ذلك؟!