تعيش الأسواق المغربية منذ أشهر على وقع موجة متسارعة من الارتفاعات السعرية، طالت تقريباً كل القطاعات: من المواد الغذائية الأساسية والفواكه الموسمية، إلى الخدمات السياحية، وصولاً إلى كلفة الإقامة في الفنادق والمطاعم. وإذا كان التضخم ظاهرة اقتصادية لا تنفصل عن سياق العولمة وتقلبات الأسواق الدولية، فإن ما يثير القلق في الحالة المغربية هو انفلات منحنى الأسعار داخلياً إلى مستويات لا تبررها بالضرورة معطيات العرض والطلب أو التكلفة الحقيقية للإنتاج والخدمات. أن يصل سعر حبة الكرموس الشوكي إلى سبعة دراهم، وكيلو التين إلى ستين درهماً، وغرفة فندقية متوسطة الجودة إلى ضعف أو ثلاثة أضعاف سعرها المعتاد، فذلك يطرح سؤالاً جوهرياً: من المستفيد من هذه القفزة؟ وهل خزينة الدولة فعلاً تستفيد من الضرائب المفروضة على هذه الزيادات، أم أن المنتفع الأكبر هو فئة محدودة من الوسطاء والمضاربين؟
من منظور علم الاقتصاد، يمكن تفسير جزء من هذه الظاهرة بقاعدة أن الأسعار تتحدد بفعل تفاعل قوى العرض والطلب، غير أن هذا التفاعل في الاقتصاد المغربي يختل في كثير من الأحيان بفعل عوامل احتكارية أو شبه احتكارية، وغياب منافسة حقيقية في بعض القطاعات. حين يهيمن فاعل أو بضعة فاعلين على سوق سلعة أو خدمة معينة، فإنهم يكتسبون قدرة شبه مطلقة على تحديد الأسعار، مع هامش رقابة ضعيف من السلطات، ما يتيح لهم تحويل أي اضطراب في الكلفة أو العرض إلى فرصة لمراكمة أرباح إضافية. وهذا ما يفسر أن الارتفاعات السعرية في كثير من السلع والخدمات لا يقابلها تحسن في الجودة أو إضافة قيمة جديدة، بل هي في جوهرها رفع هوامش الربح.
أما من منظور المالية العامة، فإن المسألة أكثر تعقيداً. الدولة لا تحصل تلقائياً على إيرادات ضريبية متناسبة مع الارتفاع المفرط في الأسعار، خاصة إذا كانت هذه الأسعار نتاج معاملات غير مهيكلة أو لا تمر عبر القنوات الرسمية. فجزء كبير من تجارة الفواكه مثلاً، بما فيها التين والكرموس الشوكي، يتم في أسواق تقليدية أو عبر باعة جوالين لا يخضعون للنظام الضريبي المنظم، مما يعني أن أي زيادة في أسعار هذه المنتجات لا تنعكس بشكل مباشر في إيرادات الدولة. في المقابل، قد تتأثر القدرة الشرائية للمستهلك بشكل سلبي، ما يحدّ من الطلب على سلع وخدمات أخرى خاضعة للضريبة، وهو ما قد يفضي في النهاية إلى تراجع الموارد الجبائية بدلاً من زيادتها.
هذا لا يعني أن الدولة لا تستفيد إطلاقاً من موجات التضخم، إذ أن بعض الضرائب، مثل الضريبة على القيمة المضافة (TVA)، ترتبط مباشرة بسعر البيع النهائي. لكن هذه الاستفادة مشروطة بمدى التزام البائعين والفنادق والمطاعم بتسجيل معاملاتهم بشكل قانوني والتصريح بها. في القطاعات المنظمة، مثل الإيواء السياحي المرخص، قد تحقق الخزينة إيرادات إضافية بفعل ارتفاع الأسعار، لكن هذا الأثر قد يكون محدوداً إذا ما قورن بالخسائر التي قد تترتب على تراجع عدد الزبائن أو تحولهم نحو خيارات أقل تكلفة أو غير مهيكلة.
اقتصادياً، يمكن تحليل هذه الظاهرة من منظور "التضخم المدفوع بالتكاليف" و"التضخم المدفوع بالطلب". في الحالة المغربية، تتداخل العوامل: فهناك تكاليف إنتاج ونقل ارتفعت بفعل تقلبات أسعار المحروقات وظروف مناخية أثرت على العرض الزراعي، وهناك أيضاً ضغوط طلب في بعض الفترات السياحية التي يزداد فيها الإقبال على الفنادق والمنتجات الموسمية. لكن ما يفاقم الوضع هو استغلال بعض الفاعلين لهذه الظروف كغطاء لفرض زيادات تفوق بكثير ما تبرره الكلفة أو الندرة، وهو ما يدخل ضمن "التضخم المستورد من السلوك الاحتكاري".
من زاوية السياسة الاقتصادية، يفترض في الدولة أن تتعامل مع هذه الظاهرة بأدوات مزدوجة: من جهة، تعزيز آليات المراقبة والمنافسة ومنع الاحتكار، ومن جهة أخرى، إصلاح النظام الجبائي بما يضمن أن أي زيادة في الأسعار تعود جزئياً على المالية العامة لدعم الفئات المتضررة. لكن الواقع يكشف أن ضعف المراقبة الميدانية، واتساع حجم الاقتصاد غير المهيكل، وتشتت المسؤوليات بين وزارات ومؤسسات متعددة، يحد من فعالية أي تدخل.
في القطاع السياحي، مثلاً، يُلاحظ أن موجات الغلاء في أسعار الإيواء والخدمات الفندقية قد تؤدي على المدى المتوسط إلى تراجع القدرة التنافسية للمغرب كوجهة سياحية، خاصة في الفئة المتوسطة التي تشكل العمود الفقري للسوق الداخلية ولجزء كبير من الطلب الخارجي. وإذا كان بعض المستثمرين يحققون أرباحاً استثنائية في موسم واحد، فإن انعكاسات ذلك على المدى البعيد قد تكون سلبية على تدفق السياح، وبالتالي على الإيرادات الضريبية والاقتصادية.
أما في الأسواق الغذائية، فإن الارتفاعات المبالغ فيها في أسعار منتجات موسمية مثل التين أو الكرموس الشوكي، تعكس في كثير من الأحيان ضعف تنظيم سلاسل التوزيع، وسيطرة وسطاء يفرضون أسعاراً عالية في غياب بدائل مباشرة للمستهلك. هنا أيضاً، الدولة لا تجني بالضرورة إيرادات إضافية، لأن الجزء الأكبر من هذه المعاملات يبقى خارج المساطر الجبائية، فيما يبقى الأثر الاجتماعي واضحاً في شكل تآكل القدرة الشرائية واتساع الفجوة بين الأسعار والدخول.
من منظور العدالة الجبائية، يمكن القول إن هذه الوضعية تعمّق الاختلالات القائمة، إذ أن العبء الضريبي الفعلي لا يتوزع بشكل عادل بين الفاعلين، بل يتركز أكثر على الفئات المنظمة، في حين يظل الاقتصاد غير المهيكل في وضعية شبه معفاة من الالتزامات. هذا الأمر يخلق بيئة تنافسية غير متكافئة، حيث يستطيع الفاعلون غير المهيكلين تحقيق أرباح عالية دون تحمل نفس الأعباء التي يتحملها الفاعلون المهيكلون، وهو ما قد يدفع بعض المستثمرين إلى التهرب من التنظيم أو تقليص أنشطتهم المصرح بها.
على المستوى الكلي، يؤدي التضخم غير المنضبط إلى إعادة توزيع غير عادلة للثروة، حيث تنتقل موارد إضافية من جيوب المستهلكين نحو أقلية من المنتجين أو الوسطاء، دون أن تمر عبر القنوات الجبائية التي يمكن أن تعيد توجيهها جزئياً نحو الإنفاق العمومي أو الدعم الاجتماعي. هذا يعمق الفوارق ويزيد من هشاشة الفئات ذات الدخل المحدود، كما قد يخلق موجات استياء اجتماعي يصعب التحكم في تداعياتها.
الخلاصة أن المستفيد الأكبر من هذه الطفرة السعرية في السياق المغربي ليس بالضرورة خزينة الدولة، بل شبكة من الفاعلين في السوق، سواء في القطاعات المهيكلة أو غير المهيكلة، الذين يستغلون ضعف المراقبة وغياب الشفافية لرفع هوامش الربح. أما الدولة، فإن استفادتها الجبائية تبقى مشروطة بمدى تنظيم القطاع وشفافية المعاملات، وهو ما لا يتحقق في معظم الحالات. وإذا كان من درس ينبغي استخلاصه، فهو أن التحكم في الأسعار لا يمر فقط عبر التدخل المباشر أو الدعم، بل عبر إصلاحات عميقة في بنية السوق، وتوسيع القاعدة الضريبية، وضمان عدالة المنافسة، حتى تتحول أي زيادة في الأسعار إلى فرصة لتعزيز الموارد العمومية وتحقيق إعادة توزيع أكثر إنصافاً، بدل أن تكون مجرد وسيلة لإثراء قلة على حساب الأغلبية.
من منظور علم الاقتصاد، يمكن تفسير جزء من هذه الظاهرة بقاعدة أن الأسعار تتحدد بفعل تفاعل قوى العرض والطلب، غير أن هذا التفاعل في الاقتصاد المغربي يختل في كثير من الأحيان بفعل عوامل احتكارية أو شبه احتكارية، وغياب منافسة حقيقية في بعض القطاعات. حين يهيمن فاعل أو بضعة فاعلين على سوق سلعة أو خدمة معينة، فإنهم يكتسبون قدرة شبه مطلقة على تحديد الأسعار، مع هامش رقابة ضعيف من السلطات، ما يتيح لهم تحويل أي اضطراب في الكلفة أو العرض إلى فرصة لمراكمة أرباح إضافية. وهذا ما يفسر أن الارتفاعات السعرية في كثير من السلع والخدمات لا يقابلها تحسن في الجودة أو إضافة قيمة جديدة، بل هي في جوهرها رفع هوامش الربح.
أما من منظور المالية العامة، فإن المسألة أكثر تعقيداً. الدولة لا تحصل تلقائياً على إيرادات ضريبية متناسبة مع الارتفاع المفرط في الأسعار، خاصة إذا كانت هذه الأسعار نتاج معاملات غير مهيكلة أو لا تمر عبر القنوات الرسمية. فجزء كبير من تجارة الفواكه مثلاً، بما فيها التين والكرموس الشوكي، يتم في أسواق تقليدية أو عبر باعة جوالين لا يخضعون للنظام الضريبي المنظم، مما يعني أن أي زيادة في أسعار هذه المنتجات لا تنعكس بشكل مباشر في إيرادات الدولة. في المقابل، قد تتأثر القدرة الشرائية للمستهلك بشكل سلبي، ما يحدّ من الطلب على سلع وخدمات أخرى خاضعة للضريبة، وهو ما قد يفضي في النهاية إلى تراجع الموارد الجبائية بدلاً من زيادتها.
هذا لا يعني أن الدولة لا تستفيد إطلاقاً من موجات التضخم، إذ أن بعض الضرائب، مثل الضريبة على القيمة المضافة (TVA)، ترتبط مباشرة بسعر البيع النهائي. لكن هذه الاستفادة مشروطة بمدى التزام البائعين والفنادق والمطاعم بتسجيل معاملاتهم بشكل قانوني والتصريح بها. في القطاعات المنظمة، مثل الإيواء السياحي المرخص، قد تحقق الخزينة إيرادات إضافية بفعل ارتفاع الأسعار، لكن هذا الأثر قد يكون محدوداً إذا ما قورن بالخسائر التي قد تترتب على تراجع عدد الزبائن أو تحولهم نحو خيارات أقل تكلفة أو غير مهيكلة.
اقتصادياً، يمكن تحليل هذه الظاهرة من منظور "التضخم المدفوع بالتكاليف" و"التضخم المدفوع بالطلب". في الحالة المغربية، تتداخل العوامل: فهناك تكاليف إنتاج ونقل ارتفعت بفعل تقلبات أسعار المحروقات وظروف مناخية أثرت على العرض الزراعي، وهناك أيضاً ضغوط طلب في بعض الفترات السياحية التي يزداد فيها الإقبال على الفنادق والمنتجات الموسمية. لكن ما يفاقم الوضع هو استغلال بعض الفاعلين لهذه الظروف كغطاء لفرض زيادات تفوق بكثير ما تبرره الكلفة أو الندرة، وهو ما يدخل ضمن "التضخم المستورد من السلوك الاحتكاري".
من زاوية السياسة الاقتصادية، يفترض في الدولة أن تتعامل مع هذه الظاهرة بأدوات مزدوجة: من جهة، تعزيز آليات المراقبة والمنافسة ومنع الاحتكار، ومن جهة أخرى، إصلاح النظام الجبائي بما يضمن أن أي زيادة في الأسعار تعود جزئياً على المالية العامة لدعم الفئات المتضررة. لكن الواقع يكشف أن ضعف المراقبة الميدانية، واتساع حجم الاقتصاد غير المهيكل، وتشتت المسؤوليات بين وزارات ومؤسسات متعددة، يحد من فعالية أي تدخل.
في القطاع السياحي، مثلاً، يُلاحظ أن موجات الغلاء في أسعار الإيواء والخدمات الفندقية قد تؤدي على المدى المتوسط إلى تراجع القدرة التنافسية للمغرب كوجهة سياحية، خاصة في الفئة المتوسطة التي تشكل العمود الفقري للسوق الداخلية ولجزء كبير من الطلب الخارجي. وإذا كان بعض المستثمرين يحققون أرباحاً استثنائية في موسم واحد، فإن انعكاسات ذلك على المدى البعيد قد تكون سلبية على تدفق السياح، وبالتالي على الإيرادات الضريبية والاقتصادية.
أما في الأسواق الغذائية، فإن الارتفاعات المبالغ فيها في أسعار منتجات موسمية مثل التين أو الكرموس الشوكي، تعكس في كثير من الأحيان ضعف تنظيم سلاسل التوزيع، وسيطرة وسطاء يفرضون أسعاراً عالية في غياب بدائل مباشرة للمستهلك. هنا أيضاً، الدولة لا تجني بالضرورة إيرادات إضافية، لأن الجزء الأكبر من هذه المعاملات يبقى خارج المساطر الجبائية، فيما يبقى الأثر الاجتماعي واضحاً في شكل تآكل القدرة الشرائية واتساع الفجوة بين الأسعار والدخول.
من منظور العدالة الجبائية، يمكن القول إن هذه الوضعية تعمّق الاختلالات القائمة، إذ أن العبء الضريبي الفعلي لا يتوزع بشكل عادل بين الفاعلين، بل يتركز أكثر على الفئات المنظمة، في حين يظل الاقتصاد غير المهيكل في وضعية شبه معفاة من الالتزامات. هذا الأمر يخلق بيئة تنافسية غير متكافئة، حيث يستطيع الفاعلون غير المهيكلين تحقيق أرباح عالية دون تحمل نفس الأعباء التي يتحملها الفاعلون المهيكلون، وهو ما قد يدفع بعض المستثمرين إلى التهرب من التنظيم أو تقليص أنشطتهم المصرح بها.
على المستوى الكلي، يؤدي التضخم غير المنضبط إلى إعادة توزيع غير عادلة للثروة، حيث تنتقل موارد إضافية من جيوب المستهلكين نحو أقلية من المنتجين أو الوسطاء، دون أن تمر عبر القنوات الجبائية التي يمكن أن تعيد توجيهها جزئياً نحو الإنفاق العمومي أو الدعم الاجتماعي. هذا يعمق الفوارق ويزيد من هشاشة الفئات ذات الدخل المحدود، كما قد يخلق موجات استياء اجتماعي يصعب التحكم في تداعياتها.
الخلاصة أن المستفيد الأكبر من هذه الطفرة السعرية في السياق المغربي ليس بالضرورة خزينة الدولة، بل شبكة من الفاعلين في السوق، سواء في القطاعات المهيكلة أو غير المهيكلة، الذين يستغلون ضعف المراقبة وغياب الشفافية لرفع هوامش الربح. أما الدولة، فإن استفادتها الجبائية تبقى مشروطة بمدى تنظيم القطاع وشفافية المعاملات، وهو ما لا يتحقق في معظم الحالات. وإذا كان من درس ينبغي استخلاصه، فهو أن التحكم في الأسعار لا يمر فقط عبر التدخل المباشر أو الدعم، بل عبر إصلاحات عميقة في بنية السوق، وتوسيع القاعدة الضريبية، وضمان عدالة المنافسة، حتى تتحول أي زيادة في الأسعار إلى فرصة لتعزيز الموارد العمومية وتحقيق إعادة توزيع أكثر إنصافاً، بدل أن تكون مجرد وسيلة لإثراء قلة على حساب الأغلبية.
