Wednesday 16 July 2025
جالية

أريري: كيف ساهم "إكسبو" و"الألعاب الأولمبية" في إقلاع مدينة برشلونة

أريري: كيف ساهم "إكسبو" و"الألعاب الأولمبية" في إقلاع مدينة برشلونة عبد الرحيم أريري في شارع "غراسيا" الكثيف الأشجار، وبساحل المدينة
لو كنت ضابطا للحالة المدنية لأقدمت على تحديد تاريخين لميلاد مدينة برشلونة. تاريخ الميلاد الأول هو عام 1929، فيما تاريخ الميلاد الثاني هو 1992.

صحيح أن "النطفة الأولى" لمدينة برشلونة تمت في سنة 220 قبل ميلاد المسيح، حين برزت النواة الأولى لعاصمة الكاطلان قبل 2245 عاما، وظلت المدينة "تحبو" إلى أن نمت في عهد الفتح الإسلامي في القرن الثامن الميلادي، واشتد عودها ونضجت بين القرنين11 و14، خاصة في عهد "جاك الأول"، ملك مملكة أراغون. 

لكن الولادة القوية لبرشلونة كمدينة مؤثرة في محيطها وذات جاذبية دولية لم تتحقق إلا حين احتضنت الحدث العالمي "إكسبو" Expo في عام 1929، والألعاب الأولمبية في عام 1992؛ وهما الحدثان اللذان شكلا فرصة فعلية لإقلاع المدينة وتعزيز وظائفها وتغيير مورفولوجيتها.

نعم سبق لبرشلونة أن احتضنت سابقا "إكسبو" 1888، لكن هذا الحدث لم يترك آنذاك وقعا مهما، ولم يجلب نعما كبرى للعاصمة الكاطالانية، لاعتبارات لا يسمح المقام هنا باستعراضها. في حين سمح تنظيم "إكسبو" عام 1929 واحتضان الألعاب الأولمبية عام 1992 بنهضة برشلونة وتحقيق وثبتها الحضرية والمعمارية والجمالية، بفضل تجديد بنيتها التحتية، وتجديد قنوات صرف مياهها، وضبط عمرانها، وهدم مبانيها العشوائية، وتصفيف شوارعها الكبرى، وتحسين فضائها الحضري، وتهيئ منتزهاتها وساحاتها الكبرى، ثم -وهذا هو المهم- مصالحة ميناء برشلونة وساحلها مع المدينة ومع ساكنتها.
 
هناك مؤشران اثنان يسمحان بالتقاط تحسن المشهد الحضري لعاصمة الكاطالان:
أولا: إدخال برشلونة لنادي المدن الخضراء
رغم أن مدينة برشلونة (1،7 مليون نسمة)، لا تتوفر إلا على 7 أمتار مربعة من المساحات الخضراء لكل مواطن، مما يجعلها دون المعدل الأوربي (14متر مربع لكل مواطن)، فإن المخططين الحضريين والمهندسين المنظريين اهتدوا إلى حيلة ذكية لجعل برشلونة تحظى بجاذبية خضراء، شأنها شأن المدن الأوربية الأخرى، مثل باريس وكوبنهاغن وفيينا ولندن وميونيخ. هذه الحيلة فرضها وضع برشلونة التي تواجه عائقين كبيرين: العائق الأول طوبوغرافي، لكون المدينة محاصرة بالبحر والجبل ولا توجد إمكانية تمطيطها أو إمكانية إنجاز منتزهات كبرى أخرى، وهذا ما يفسر الكثافة التي تشهدها المدينة رغم قصر مساحتها نسبيا (100 كلم مربع). أما العائق الثاني، فهو ذو طبيعة مناخية بالنظر إلى أن برشلونة توجد في مستوى خط الجفاف، وتتميز بندرة التساقطات المطرية على طول العام، عكس المدن الأوربية الأخرى (لا ننسى أن برشلونة في عام 2008 واجهت أزمة عطش حادة اضطرت معه إسبانيا إلى استيراد الماء من فرنسا عبر تسخير عشرات البواخر يوميا محملة بالماء من مارسيليا). 
الحيلة التي اهتدى إليها المسؤولون ببرشلونة تتجلى في الإكثار من غرس الأشجار بكل مناطق المدينة، مع الحرص على اختيار أشجار مقاومة للجفاف و قليلة الاستهلاك للماء. 

عملية غرس الأشجار تمت في كل شارع، وفي كل زنقة، وفي كل ساحة، وفي كل مدارة طرقية بدون استثناء أي حي، بل حتى زوايا الأزقة (Les chutes)، تم استغلالها بغرس الأشجار، لدرجة أن برشلونة المدينة (وليس الميتروبول)، تضم لوحدها 250 ألف شجرة، بمعدل 15 شجرة لكل 100مواطن (للمقارنة هناك شجرتان لكل 100 مواطن بالبيضاء).
 
ثانيا: مصالحة المدينة مع البحر
إن كان من حسنة لاحتضان برشلونة للألعاب الأولمبية عام 1992، فهو استعادة المدينة وسكانها لساحل البحر المتوسط. فبعد عقود من إدارة برشلونة ظهرها للبحر بسبب إغلاق منافذه بسبب الميناء اللوجيستيكي الضخم، وكذا لغياب كورنيش جميل ومهيء، أتاحت الألعاب الأولمبية مصالحة المدينة مع البحر عبر هدم الأسوار وفتح الميناء من جهة وتهيئة مارينا بهية، وتوطين أنشطة ترفيهية  ومطاعم ومقاه، على طول الساحل من جهة ثانية،  مع الحرص على إعداد كورنيش بأحدث المواصفات بشكل جعل الساحل يتحول إلى قطب جذب يومي للساكنة ولزوارها. 

النتيجة اليوم، أن برشلونة ربحت حوالي 5 كيلومترات من الشواطئ التي تعج بالمصطافين طوال العام، خاصة وأن المدينة تمتاز باعتدال المناخ وبالأيام المشمسة طوال العام (300 يوم في السنة من أصل 365 يوما).

هذا الإرث الإيجابي حولته العمدة Ada Colau Ballano (كانت رئيسة لبلدية برشلونة من 2015 إلى 2023)، إلى رأسمال مشترك لكامل سكان المدينة، بشكل جعل العمدة "Ada Colau" تتفوق في تسويق صورة إيجابية عن برشلونة كمدينة مستدامة. وهذا ما جعل برشلونة تجني ثمار هذا التسويق بعد جائحة كوفيد، إذ تقاطرت على المدينة آلاف الكفاءات المنتمية لسلالة "الرحل الرقميون"Digital Nomads، من كل بقاع العالم، بشكل رفع من "أسعار" المدينة في بورصة المدن العالمية الأكثر جاذبية واستقطابا لنخبة العالم.