بماذا يمكن تفسير إقدام الجيش الإسرائيلي على تنفيذ غارات جوية على مواقع عسكرية ومنشآت نووية إيرانية؟ هل تسعى تل أبيب بالفعل إلى تقويض النفوذ الإيراني الإقليمي، أم تطمح إلى فرض قوة "الردع العسكري" على جميع دول الجوار، أم تسعى إلى تسريع وتيرة تنزيل المخطط الأمريكي في إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط؟
على الواجهة الإيرانية، ما هي الرسائل التي تسعى طهران إلى توجيهها إلى تل أبيب وواشنطن، من خلال الإمعان في إمطار المدن الإسرائيلية بالصواريخ الباليستية؟ وبماذا يمكن تفسير إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تأكيد أن أمريكا لم تشارك في الهجمات الإسرائيلية على الداخل الإيراني، وعلى أن «القوات الأمريكية سترد بأقصى قوة، وبمستويات غير مسبوقة إذا تعرضت لهجوم إيراني»، وأنه سيعمل بشكل حثيث على «إيقاف الحرب بين الطرفين» و«التوصل قريبا إلى السلام»؟
لم يخف الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، في تصريحاته التي أعقبت تنفيذ الضربة الجوية، أن الهجمات على إيران تهدف إلى «تغيير الشرق الأوسط». غير أن السؤال الذي يطرحه المراقبون، بالنظر إلى التطورات الميدانية، يظل هو: ألم يرتكز الأمر كله على فرضيات خاطئة قد تُفضي إلى كوارث استراتيجية إقليمية وعالمية يصعب تداركها؟ هل تملك إسرائيل وأمريكا تصورات دقيقة حول طبيعة القوة الإيرانية؟
في تقرير لها، لم تتردد مجلة «فورين أفيرز»، في التشكيك في فعالية المنطق الذي يستند إليه الخطاب الغربي في تعامله مع إيران، معتبرة أن الافتراض السائد حول هشاشتها لا يصمد أمام اختبار الوقائع. فإيران، رغم ما تكبّدته من خسائر ميدانية، وفقدان أذرعها الإقليمية، لا تزال تملك شبكة نفوذ معقدة تمتد من العراق إلى اليمن، وتحافظ على حضورها العسكري والسياسي في أكثر من ساحة. وأضافت أن إسرائيل إذا كانت تراهن على ضربة استباقية تُعيد إيران سنوات إلى الوراء وتدفعها إلى الاستسلام والتخلي عن «السعي نحو امتلاك قنبلتها النووية»، فإن الرد الإيراني الواسع كشف أن طهران طوّرت قدرة هجومية فعّالة لم تعد تُختزل في مجرد أدوات ردع رمزية أو محتشمة، أو بلاغات التهديد، أو في إشهاد الأمم المتحدة على الاعتداء على سيادة أراضيها، ما دام الرد جاء عن طريق تحريك أسراب من «الدرونات» الدقيقة، وتوجيه مئات الصواريخ الباليستية ذات المدى البعيد نحو أهداف عسكرية وأمنية إسرائيلية. فهل كانت إسرائيل تتوقع هذا الرد القوي من طهران؟ هل كانت تعول على التردد الإيراني في دخول حرب مع كيان تدعمه أمريكا؟ هل بادرت إلى الهجوم لأنها اعتقدت إن أذرع طهران أصبحت باردة، وأنها ستجبن أمام التفوق العسكري والتكنولوجي لإسرائيل؟
يشير الخبير الاستراتيجي الأمريكي كينيث بولاك إلى أن إيران، مع التطورات الميدانية الحالية، لم تعد دولة «وظيفية» في النظام الإقليمي فحسب، بل أصبحت فاعلًا مستقلًا يمتلك حسابات خاصة وشبكات تأثير يصعب تفكيكها بقوة السلاح وحدة، وأي قراءة خارج هذا المنطق ستجعل من إقرار وضع إقليمي جديد أمرا غير قابل للتنزيل. كما يؤكد تريتا بارسي، الخبير في شؤون الأمن الإقليمي، أن أي ضربة عسكرية ضد إيران ستؤدي على الأرجح إلى انزلاق نحو حرب أوسع، وأن من يظن أن الضربات الجراحية قادرة على إنهاء التهديد الإيراني فهو خاطئ، ذلك أن مثل هذه الضربات، في أحسن الأحوال، قد تؤجل البرنامج النووي لكنها لن تدمّره تدميرا نهائيا، بل ستدفع نظام طهران إلى الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي وتسريع تطوير القنبلة النووية، وهو ما يتفق معه مارك فيتزباتريك، الباحث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، الذي لطالما حذّر من أن التهديد الحقيقي لا يكمن في ما تملكه إيران الآن، على مستوى القوة العسكرية، بل في ما قد تندفع نحوه بعد ضربة عسكرية تدفعها إلى الخروج من الإطار الدبلوماسي تمامًا.
أمام المعطيات الجديدة، واستمرار الكر والفر بين الطرفين، هل يمكن القول بأن النجاحات التكتيكية التي حققتها إسرائيل وأمريكا في بعض الجبهات الشرق-أوسطية، سواء في استهداف قادة حركة حماس أو إضعاف حزب الله، أو في قلب النظام السوري، لم تفض في الواقع إلى مكاسب استراتيجية ثابتة بإمكانها إضعاف إيران؟
لماذا فشل الرصد الاستخباراتي الأمريكي والإسرائيلي في إنتاج توترات أخرى «غير الخيار العسكري» على مقاس إضعاف إيران، والدفع بها نحو القبول بوضع جديد يقوم على الإذعان لإملاءات واشنطن؟ ثم هل كانت إسرائيل تتوقع أن ضربة قوية قد تؤدي إلى زعزعة النظام الإيراني أو على الأقل إلى إشعال انتفاضة داخلية تعجل بزوال هذا النظام؟ ألن تساهم الضربة، عكس ذلك، في توحيد الصف الوطني الإيراني أمام التهديد الخارجي، رغم اتساع المسافة بين النظام والمعارضة؟
إن إيران اليوم، حسب تقرير «فورين أفيرز»، ليست مجرد دولة تتعامل مع خطر إسرائيلي خارجي بحسابات أمريكية غير خفية، بل مركزا لشبكة تحالفات منسقة قادرة على تعطيل المصالح الأميركية والإسرائيلية في أكثر من مسرح. من مضيق هرمز (إيران تهدد بإغلاق المعبر) إلى باب المندب، من الحدود اللبنانية إلى الساحة العراقية، ومن الداخل السوري إلى العمق اليمني، كل هذه الجبهات قد تُفتح دفعة واحدة من جديد «بدأ الحوثيون يهاجمون إسرائيل»، مما يُحول أي ضربة غير مدروسة إلى بداية نزاع إقليمي شامل. وهنا، يبرز ما يحذر منه ريتشارد هاس، الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية، من أن الشرق الأوسط لم يعد يحتمل حروبًا جديدة، وأن على الولايات المتحدة أن تُعيد ضبط سياستها في المنطقة بعيدًا عن أوهام القوة وسيناريوهات التفوق العسكري السريع.
على هذا الأساس، فإن ما تسعى إليه إسرائيل – بدعم من بعض الدوائر الأمريكية، – من فرض «نظام ردع نهائي» عبر القوة العسكرية الباطشة، قد يؤدي في الواقع إلى فوضى مستدامة بدلًا من استقرار طويل الأمد. فإيران، وإن كانت تواجه مأزقًا داخليًا بين المحافظين والإصلاحيين، إلا أنها ليست على وشك الانهيار، بل إن أي تدخل عسكري من قبيل القصف الإسرائيلي لمؤسساتها العسكرية الاستراتيجية سيمنح النظام ما يشبه «طوق النجاة»، وسيُجمّد الصراع الداخلي لصالح «وحدة الجبهة» ضد العدو الخارجي، كما يُرجّح أن يُعيد هيكلة التحالفات الإقليمية في غير صالح أمريكا التي تصر على إنشاء «شرق أوسط عظيم» بتعبير دونالد ترامب.
إن الشرق الأوسط، اليوم، أمام مفترق طرق، حيث لا خيار خالٍ من الكلفة، لكنّ العودة إلى طاولة المفاوضات، ولو على أساس تنازلات متبادلة، تبقى أقل الطرق كلفة وأكثرها عقلانية، بدل الاستمرار في حرب بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية أن تنخرط فيها بشكل صريح، وهذا ما صرح به ترامب لشبكة "إي بي سي": «لسنا متورطين في هذا الصراع. من الممكن أن نتدخل. لكننا لم نتدخل في الوقت الحالي». فهل ستتدخل أمريكا ؟ ومتى ستتدخل؟ وهل التدخل إكراه استراتيجي؟ وهل بإمكان واشنطن أن تضيع فرصة الوصول إلى الاتفاق النووي؟ وماذا عن طهران التي تدرك أن أمريكا تريد أن «تفاوضها» حول برنامج «تخصيب اليورانيوم» تحت ضغط الضربات الإسرائيلية الساحقة؟ وهل هي على وفاق مع الدول العظمى لخوض غمار الخرب؟ وما موقف إسرائيل الآن، بعد تعرضها لهجوم صاروخي ماحق وتوتر الوضع الداخلي، من سوء تقدير قوة الخصم الذي وضعتها فيه أمريكا؟ هل تستمر في بناء الغارات الجوية وتوجيه الضربات إلى إيران، أم ستنكمش على نفسها أمام محدودية أثر الهجوم، ما دامت إيران تتوفر على جاهزية دفاعية وهحومية مهمة؟ وما موقف دول الجوار، وهل هي على استعداد للتعامل مع التطورات العسكرية الراهنة، أم ستستمر في وضع المتفرج المغلوب على أمره الذي لا يملك من أمر سيادته على أجوائه الوطنية أي شيء، خاصة أن إيران باتت تملك الآن القدرة على توسيع ساحة المواجهة، ونقلها إلى الداخل الأردني أو العراقي أو السوري أو السعودي؟
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"