Saturday 24 May 2025
منوعات

حسن الرحيبي: "بيبَطْ" سيّدة القُصُور وجالبَة الضّيوف

حسن الرحيبي: "بيبَطْ" سيّدة القُصُور  وجالبَة الضّيوف طائر "بيبَطْ"
اعتقدنا دائماً أنها "فْقيرَة" أي شريفية ومقدّسة يجب احترَام خصوصيتها. وعدم مضايقتها لأنها تعيش فقط في قلب المنازل لا تؤذي أحداً. كما لا تأكل سنابل الفلّاحين مثل جحافل "الجّوج" الغوّار التي تتكاثر على الأشجار، وتقتحم الحقول مُفسدةً في الأرض. يصاحب اكتساحها لها صخَب كثير ولغَط اعتقدنا ذات يوم أنها تقيم عُرساً لختان أبنائها، أو زواج بناتها. 
قال عنها دائماً المرحوم خالي ولد فرَيْحة : "إنّها من تسعةُ رهطَيْن !" وهو توصيف ما قبل علمي لبعض ظواهر الطبيعة الماسخة والناسخة ذات البعد الروحاني الخفي.
 
 لكنّ "بِيبَطْ" ظلت دائماً بأعداد قليلة جدّاً، بحيث لا يتجاوز عدد أفراد سربها إثنين أو ثلاثة، من حين لآخر تُصدر صوتاً بديعاً وحادّاً يمزّق سكون الصباح الواعد : بييييييبَطْ ! فيعتقد الكبار أنها تتنبأ بقدوم ضيف عزيز، لأنها لا تنطق عن الهوىٰ، بل حدسها الصّوفي الشّريف لا يُخطئ. كما تُقيم أعشاشها في بداية الربيع في أية طاقة من طاقات بيوت البوادي العشوائية، فنمتنعُ عن لمس بيضها أو فراخها الصغار . زغب الحوَاصل والتي تنفتح مناقيرها الصّفراء الهشّة كلما لمست حركةً بالقرب من وكرها الصغير، خوفاً من نفورها منها حين تتغيّر الرائحة فتعتقد أنها غريبةً عنها، لتموت عطشى جائعةً في عزّ حرارة بداية الصيف القائظ.
 نصادف عشّاً لها ونحن متوجّهين نحو كُتّاب الجّامع في ثقوب إحدى البنايات القديمة من تراب بيّاضة أو التّابية كنا نسميه حايط التّامي. أطلال مندرسة لرجل من دوار أولاد لحمر يسمى التّامي العمراني أورث ابنه محمد لحمر المعلّق الرياضي في التلفزيون هذا الإسم بالألوان !
 
يدلّنا سي محمد ولد العربي الغائب الآن غيبةً كبرى، على العُش لكن شريطة عدم لمس محتوياته، أو تقبيل اليد التي لمستها أو لثمها كي تستمرّ الأم في احتضانها، وإلّا نفرتها إلى الأبد تاركةً إياها عُرضةً للإهمال والضّياع ! لكن كنا نتعمّد لمسها وعدم "حبّ " أصَابعنا نكايةً في الطفل الذي دلّنا على الفراخ البريئة كي نثير غضَبه ونعمل على زعزعة نفسيته المهزوزة أصلاً، فيتبعنا باكياً مهدّداً إيانا بقوى خفية لا يعلمها سواه ! "والصّݣع اتّا حَبّ يدَك !" ثم يتضاعف التّهديد لما نبالغ في الركض مطلقين ساقينا للرّيح : "واحبّ يدك آولد لحرام! والصّݣع اتّا حُبّ يدَكْ .." لكننا نفرّ جماعةً نحو المسجد فنجلس أمام الطالب سي احمد بعد العثور على ألواحنا الخشبية الصّغيرة تحت ركام من الألواح اختلف حجمها وشكلها والخطوط المرسومة على واجهتيْها من الجديدة أي السور قبل حفظها. والبالية وتعني السّوَر المحفوظة أول أمس . فنخوضُ في القراءة منخرطين في أزيز خلية نحل ثائرة : "زيد آسي والطّير ؟ زيد آسي عمّ يتساءل ؟ زيد آسّي تباركَ الذي؟" مع استراق النظر من حين لآخر لمراقبة بيبط وقد انتفخت ليكبر حجمها وتصدر أنغاماً جميلةً منتظرةً بزوغ شمس الشتاء من وراء سديم الضباب الكثيف. فيأمرنا الطالب بمحو البالية والاستعداد لكتابة صَفحة جديدة من السور القرآنية القصيرة !! مستغلين بعضَ الفرص للتنابز بالألقاب : آلمحززين ! والمحزّزين كالدّحش ! والمحزّزينَ كالݣمحة ملتفتين نحو المرحوم عبد الحق ولد الفقير . أو مبادرين بالكلام الفاحش : ݣول قالَ ما قُلْ؟ امّك ت....وبّاكْ يطلّ ! 
  
تلميذ مراهق لا زال يحفظ وسط أطفال صغار أغرار زغب الحواصل بدون تجارب . يتحايل عليهم بإخراج الذبّانة من أصابعهم الوسطى . يثقون فيه متلهفين لرؤية ذبابة تخرج من جلد أصابعهم. فيبسطون أيديهم عن طواعية. بينما يخوضُ المراهق في حكّ ظهر الأصبع الطري بأظافره الحادة حتى تدمى. لما يحاول الاحتجاج يبرر له عدم رؤيته للذبانة العجيبة كونه التفت لحظة خروجها بسرعة كبيرة . 
 
يستمرّ الجرح مؤلماً لأسابيع يكون الطفل الغرّ قد تعلّم درساً لا يُنسى . مراهق آخر يوهم طفلاً آخر بقدرته على إخراج أرنبة من عضلة ذراعه الأيمن. يأمره بتنيه حتى تنتفخ العضلة فيضرب عليها بطرف كفه الحادّ حتى ينتفخ جزء منها ويمرّ عبر العضلة. فيتوهم الطفل المسكين أن بالفعل رنيبة تسكن في عضلة ذراعه لكن تحتاج لمن يوقظها ويفزعها بضَربة قوية شديدة الألم . هكذا تعلمنا أن لا نُلدغ من الجحر مرتين ! 
 
اتهمنا دائماً عبد القادر ولد سي دحّان بأنه يستعين بأخته حجّوبة لقنص طيور "بيبط" من طاقات سورهم الترابي القديم مستعملاً النخالة لجذبها. واكتفائه بأكل فضلاتها أو بزقها فسميناه بالبّيزّق ! 
 
 لا زلت أذكر حرصنا على مداهمة أولاد "بيبط" رغم حرص أمّهم على حمايتهم بشكل متشدد ولصيق مثيرة لصَخب عنيف شبيه بالصّراخ. في بداية شهر يونيو من سنة 1960 لتطير بترنّح وهي في بداية عهدها بالطيران . فيتلقّاها في الهواء منجل الأبيض ولد بلحاج الذي يحصُد قمح سي عبسلام في مقابل بعض المنشطات التكييفية. فنحملها فرحين طالبين من امّي حليمة العمل على شويها رغم نحافتها البادية في انتظار قدوم عصافير البساتين السمينة الوافدة بعد شهرين من أوربا، فنعيث فيها قنصاً وشوياً إلى أن يحلّ الخريف فنرجع لمدارسنا مظفّرين !