يُقال كلام كثير في أوساط الأغلبية من الطبقات اليسارية المثقفة، وخصوصًا الشباب، حول الدعوة إلى إعادة أو تشكيل حكومة تناوب توافقي في أفق 2026، على غرار حكومة 1998 التي رسم ملامحها الملك الحسن الثاني، وأخرجها إلى أرض الواقع عبد الرحمن اليوسفي، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي. لكن، في نظري، هذا الطرح غير سليم؛ فالتناوب جاء في ظرف محدد ولمصلحة مرحلية بعينها.
السياق التاريخي وأحداث التناوب
قبل الحديث عن الحكومة الأشهر في تاريخ المغرب المعاصر، لا بد من الرجوع إلى النصف الثاني من القرن العشرين، حيث عرف المغرب محطات مهمة مثل الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، وإصدار حكومة عبد الله إبراهيم مرسومًا بإغلاق الحزب الشيوعي المغربي، بعد نضال طويل ضد الاستعمار ودفاع عن الفئات الهشة في المجتمع. كما شهدت تلك الفترة انشقاق معظم السياسيين عن حزب الاستقلال، ومن أبرز الأحزاب المنشقة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959، الذي أصبح لاحقًا حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
شهد الحزب صراعًا طويلًا مع النظام، لكونه حزبًا يساريًا معارضًا لطريقة تدبير الشأن العام، واعتبر أن التسيير غير ديمقراطي، وأن صلاحيات الملك مبالغ فيها، داعيًا إلى نظام ملكي برلماني. وقد تبنت معظم أحزاب اليسار هذه المبادئ، مما أدى إلى تشكيل "الكتلة الديمقراطية"، والتي ضمت حزب الاتحاد الاشتراكي، حزب التقدم والاشتراكية، منظمة العمل الوطني الشعبي، إضافة إلى حزب الاستقلال.
في هذا السياق، قال محمد اليازغي، الكاتب الأول السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي، في أحد اللقاءات: "الكتلة الديمقراطية كان هدفها بناء الديمقراطية على أسس سليمة، وكانت هناك نقاط تقارب كثيرة، خاصة في السياسات الاقتصادية والاجتماعية".
وفي سنتي 1992 و1993، دُعيت الكتلة لمفاوضات مشهودة عُرفت بلقاء إفران، حضرها أبرز وجوه المعارضة واليسار، باستثناء عبد الرحمن اليوسفي، الذي غادر المغرب إلى فرنسا وقدّم استقالته من رئاسة الحزب، والتي لم تُقبل حينها.
في هذا اللقاء، دعا الحسن الثاني المعارضة إلى طي صفحة الماضي والمشاركة في الحكومة المقبلة، حتى دون حصولهم على أغلبية برلمانية. وكان من أبرز ما أثار الجدل آنذاك الخلاف حول بقاء إدريس البصري وبعض الوزراء في مناصبهم، ما دفع الكتلة إلى التريث.
قال الحسن الثاني حينها مستغربًا: "لماذا عطلوا المسيرة الجديدة؟ ماذا يريدون أكثر من هذا للقيام بواجبهم؟".
ورُدّ على رفض تسليم وزارات السيادة بتعيين حكومة تكنوقراطية في 11 نونبر 1993.
ثم جاء دستور 1996، الذي صُوّت عليه من طرف الكتلة (باستثناء منظمة العمل الوطنية الشعبية)، وقد اعتبره عدد من اليساريين تمهيدًا لمسار ديمقراطي جديد واستجابة جزئية لمطالب المعارضة. وكان من العوامل التي شجعت عبد الرحمن اليوسفي على العودة إلى المغرب والمشاركة في العمل السياسي أيضًا قرار العفو عن معتقلين سياسيين قبل سنة من الدستور.
في سنة 1998، عُيِّن اليوسفي لتشكيل حكومة تناوب، تعبيرًا عن مصالحة مع المعارضة ودعمًا لمشاركتها في صناعة القرار العمومي. وقد ضمت الحكومة سبعة أحزاب، من بينها أحزاب الكتلة (باستثناء منظمة العمل)، وأحزاب وسطية مثل الاتحاد الدستوري والتجمع الوطني للأحرار، لأسباب تتعلق بتأمين أغلبية مريحة.
التناوب والتمهيد لنقل السلطة من الحسن الثاني إلى محمد السادس
من أبرز نتائج حكومة التناوب أنها سهّلت انتقال السلطة إلى محمد السادس بعد وفاة والده، في عملية وُصفت بالسلسة. كان هذا التناوب جزءًا من رؤية استراتيجية، حيث عبّر الملك الحسن الثاني في لقاء إفران عن شعوره باقتراب أجله، مشيرًا إلى رغبته في تقاسم ما تبقى من عمره مع المعارضة في تدبير شؤون الدولة.
وبعد اعتلاء الملك محمد السادس العرش، جدد الثقة في حكومة اليوسفي في 26 شتنبر 2000، وأعفى لاحقًا إدريس البصري من وزارة الداخلية، في خطوة رمزية تعكس إرادة التغيير وبناء مغرب جديد يقوم على مبادئ الديمقراطية.
نهاية التناوب
انتهت تجربة التناوب التوافقي بعد تعيين إدريس جطو وزيرًا أول في 9 أكتوبر 2002، عقب انتخابات لم تُفرز أغلبية واضحة. وبما أن دستور 1996 لا يُلزم الملك بتعيين الوزير الأول من الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد، تم تعيين جطو بصفته تكنوقراطيا.
وقد انتقد حزب الاتحاد الاشتراكي هذا القرار، واعتبره انحرافًا عن المسار الديمقراطي، لكنه قرر رغم ذلك الاستمرار في المشاركة الحكومية، لاستكمال المشاريع والإصلاحات التي بدأها في عهد اليوسفي.