حينما تفرغ سوريا من معتدليها، يمكن لنا أن نتوقع فيها "ملحمةً" يجز فيها "المتطرفون" رؤوس بعضهم.
فتركيا، وفق مؤشرات، تعتزم فتح باب الحصول على الجنسية التركية للسوريين اللاجئين فيها. وهؤلاء، الذين باتوا بحاجة لـ "وطنٍ بديل"، سيجدون في ذلك فرصة ذهبية. وسيجتذب ذلك الأمر، لو تأكد، مئات آلاف السوريين غيرهم، ممن هم في الداخل، أو أولئك الذين هم في بلدان لجوء عربية مجاورة يعانون فيها الأمرين من سوء المعاملة.
أوروبا من جانبها، وعبر مافيات تهريب اللاجئين، بالتواطؤ مع حكومات عربية وأوروبية، تستقطب جزءاً آخر من السوريين الحالمين بعالمٍ أفضل.
أما في الداخل، فهناك، في جانب، "داعش" و"النُصرة"، اللذان يلعبان الدور الأبرز في تجفيف أجواء "الاعتدال" في الجزء الخارج عن سيطرة النظام. فـ "المعتدلون" إما يفرون إلى الخارج، أو "يتطرفون"، طوعاً، من منطلق الانبهار بإنجازات التنظيمين، أو قسراً، خشيةً من بطشهما.
وكذلك في الداخل، في الجانب الآخر، يعمل النظام على سحب أكبر عدد ممكن من شباب البلد للقتال "في سبيله". حملات سحب الشباب للقتال زادت من نسب تهريبهم إلى الخارج، لتزيد معدلات تفريغ البلاد من الشريحة الشابة "المعتدلة".
وفي سياقٍ موازٍ، يظهر نفوذ الميليشيات الشيعية الموالية للأسد، عبر نشاطات "طقسية" لم يسبق أن شهدتها أحياء في قلب العاصمة دمشق، لتضرب على وتر كل "سُنّي" غير راضٍ عن انجرار عاصمة بلده إلى الظلال الإيرانية، بنكهة مذهبية واضحة، فتدفع بعضهم للتطرف، وتقلل بالتالي من الشريحة الشابة "المعتدلة" في هذا البلد.
أما الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، فيتابع ضرباته لـ "داعش"، وفي طريقه، لـ "النُصرة" أيضاً، معترفاً، علناً، بأن ضربات التحالف الدولي تخدم نظام الأسد، وتفتك، في طريقها، بما بقي من "اعتدال" في وجدان كل مُعارض للنظام السوري، في الداخل.
فإن كانت "الشام"، في عُرف الجهاديين من "السُنة" و"الشيعة"، في آن، هي "أرض الملاحم"، فإن قوى إقليمية وغربية، وأخرى محلية، في مقدمتها النظام ذاته، الذي يدعي العلمانية والمدنيّة، يبُثون سوياً الروح في "ملحمة" القتال بين "الجهاديين" من الطرفين، ويُفرغون البلاد من معتدليها لهذه المهمة.
فالشباب الذي انطلق في بدايات الحراك الثوري السلمي، مطالباً بشعارات مدنية وديمقراطية، غُيّب قسراً عن الساحة، فتطرف منه من عجز عن الصمود أمام فظائع الواقع المرير، وهاجر من عجز عن تحمل ما يحدث ولم تستطع عقليته "المعتدلة" تقبّل الخيار "الجهادي"، أو خيار الانزواء "المُهين" تحت "سقف الأسد".
حينما تفتك بـ "المعتدلين"، بصورة مباشرة، من جانب النظام، وبصورة غير مباشرة، من جانب الغرب وقوى إقليمية ودولية، عبر إطالة أمد الأزمة في البلاد، وعدم القيام بأية خطوات جدية لحلها، فهذا يعني أنك تؤسس لـ "أرض الملحمة". قد تكون الأخيرة مخيالاً "مُتطرفاً" في أذهان بعض المنظرين الجهاديين. لكن من يدعي العلمانية، يضع لهذا المخيال أُسساً على أرض الواقع، تُتيح تنفيذ هذه الخيالات لتتحول إلى حقيقة.
ربما أدرك أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، متأخراً، خطورة "تطييف" الصراع في سوريا، فنفى البعد الديني عن مشاركة حزبه في القتال. لكن يبدو أن الأوان قد فات. فحزب الله كان المدماك الأبرز الذي عزز الصورة النمطية المرجو تعميمها عن الصراع في سوريا، باعتباره، صراعاً "سُنياً – شيعياً".
وكانت ضربات "التحالف الدولي" التي حصرت أهدافها في "داعش" و"النُصرة"، المدماك الآخر الحاسم باتجاه الفرز في الساحة "السُنية" بين "معتدلين" يقفون على الحياد من منطلق العجز أو الجُبن أو الفشل، وبين "متطرفين" فاعلين في الصراع، من منطلق الرغبة بالانتقام أو انعدام الخيارات أو حصيلة لأربع سنوات من التنكيل بالحاضنة "السُنية" للحراك الثوري السوري.
يبقى أن نقول. يبدو أن أحاديث أشراط الساعة، والتي هي موضع خلاف شديد في صدقيتها بين علماء الدين الثُقات، تتحقق فعلياً. لا كنتيجة طبيعية لمسار الأمور فحسب، بل كنتيجة شبه مقصودة، من جانب أطراف، يبدو أنها تعي ما تفعل حقاً. أما إن كانت لا تعي ما تفعل، فتلك هي المصيبة الأكبر.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)