
في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، كانت العديد من الأصوات ترتفع للمطالبة بضرورة الحد من عنف الأساتذة والمعلمين على التلاميذ، وظلت هذه الأصوات تؤكد أن العنف ليس الوسيلة المثلى للتكوين والتعليم، بل يساهم في تنفير التلاميذ من المدرسة.
مع بداية الألفية الحالية، تغيرت الأمور، إذ بدأنا نسمع ونقرأ ونشاهد اعتداء بعض التلاميذ على الأساتذة في مشاهد تثير الكثير من التساؤلات.
الجدل حول هذه القضية تجدد في الأيام الأخيرة بعد واقعة الاعتداء على أستاذة أرفود التي توفيت قبل أيام.
متتبعون يؤكدون أن العديد من المتغيرات طرأت على المجتمع المغربي ساهمت في شيوع ظاهرة الاعتداء على رجال ونساء التعليم، ومن بينها استقالة بعض الأسر من عملية التربية، وكذا التنمر، الذي يعاني منه بعض الأساتذة الذين تحولوا من قدوات إلى موضوع للسخرية، مؤكدين أن التغيرات التي عرفتها منظومة القيم في المجتمع ساهمت بدورها في شيوع ظاهرة العنف ضد رجال ونساء التعليم.
أمينة نوقايري، ممثلة الأساتذة في اللجان الثنائية متساوية الأعضاء بجهة الدار البيضاء، أكدت في تصريح ل"أنفاس بريس" أن ظاهرة عنف التلاميذ اتجاه الأساتذة والأطر التربوية بصفة عامة في تزايد مستمر، وإن النقطة التي أفاضت الكأس مؤخرًا هي وفاة أستاذة أرفود في يوم موعدها، والذي كان يصادف 14 أبريل 2025، بسبب الاعتداء عليها بآلة حادة (شاقور) من طرف أحد الطلبة في التكوين المهني، وذلك بعدما تعرضت للتحرش من طرف المعتدي. وقالت : :هذه ليست الواقعة الأولى، حيث شهد المغرب في الفترة الأخيرة سلسلة من الاعتداءات على الأساتذة. ويرجع سبب تنامي هذه الظاهرة إلى أزمة قيم خطيرة، كما أن هناك استقالة لدور الأسرة، التي كانت تلعب دورًا كبيرا في توعية أبنائنا بأهمية احترام الأساتذة ودورهم في المجتمع، وأن رجال ونساء التعليم هم الأب والأم الثانية، الذين لا بد من توقيرهم، حيث "كاد المعلم أن يكون رسولا".
وأضافت محدثتنا، أنه كان للمعلم والأستاذ قيمة كبيرة في المجتمع المغربي، إلا أن هذه القيمة بدأت تتلاشى في السنوات الأخيرة. وأصبح الأستاذ، حسب نوقايري، بسبب استقالة الأسر، في مواجهة مباشرة مع التلاميذ، دون نسيان الإشكال المتعلق بالتطور التكنولوجي والرقمي، والابتعاد عن كل ما يتعلق بالجوانب المرتبطة بالتربية، والتي ترتبط بعوامل التنشئة الاجتماعية (الأسرة، دور الشباب، الأحزاب، الجمعيات)، التي كانت تلعب دورا أساسيا في التأطير وزرع القيم الأخلاقية، في حين نشهد حاليا تراجعا كبيرا لهذه المؤسسات.
وزادت قائلة: " مع مذكرة 2014 التي أصدرتها الوزارة الوصية لم تعد هناك آليات زجرية داخل المؤسسات التعليمية لمواجهة عنف التلاميذ، وفرض عقوبات تحول دون تكرار السلوكيات السلبية الصادرة عنهم. فأصبحت العقوبة الوحيدة هي تكليف التلميذ المخطئ بأعمال البستنة أو الأنشطة الموازية، وهذا لا يمكن اعتباره عقوبة، بل يمكن اعتباره تكريما لهذا التلميذ، في الوقت الذي كانت توجد فيه عقوبات صارمة. إضافة إلى ذلك، هناك مشكل إنهيار القدوة، حيث لم يعد الأستاذ يشكل قدوة للتلاميذ. والحديث عن العنف من قبل التلاميذ لا يمكن تعميمه، إذ لا تزال هناك فئات من هؤلاء التلاميذ تحترم وتقدر الأستاذ، الذي لا بد أن يبذل كل جهده ليكون هناك احترام متبادل بينه وبين تلاميذه. وهذا لا يعني أن الأساتذة الذين تعرضوا للعنف كانوا مقصرين في أداء مهمتهم على أحسن وجه".
محمد العلوي، عضو المكتب التنفيذي للمنظمة الديمقراطية للتعليم، أبرز أنه تم إنجاز أول دراسة تتعلق بظاهرة العنف في الوسط المدرسي سنة 2005، وذلك بدعم من منظمة اليونيسف، كما تم إجراء دراسة معمقة سنة 2007 من قبل نفس المنظمة. وقد بادرت وزارة التربية الوطنية آنذاك إلى إعداد استراتيجية قطاعية مندمجة للوقاية والحد من العنف المدرسي الموجه ضد الأطفال المتمدرسين.
لكن الملاحظ، يقول العلوي، أنه حاليا تحولت ظاهرة العنف لتستهدف الأساتذة والإداريين، مما زاد من تعقيد الوضع وجعل الوزارة المعنية حائرة في اتخاذ التدابير الكفيلة بالحد من تنامي هذه الظاهرة، خاصة أننا أصبحنا نعاني من كثرة الحالات المرتبطة بها.
و قال العلوي: "لقد شجبنا، في المنظمة الديمقراطية للتعليم، من خلال بيان رسمي، ما تعرضت له أستاذة أرفود من اعتداء على يد أحد تلامذتها خارج المؤسسة. ويجب على الحكومة أن تعطي الأولوية القصوى لتأهيل المدرسة العمومية، وجعلها ذات جودة، مع ضمان الحماية الكاملة للأطر الإدارية والتربوية، الذين يقومون بتمرير البرامج والمناهج في ظروف نفسية وجسدية سليمة، تمكنهم من أداء مهامهم على أحسن وجه، مع حمايتهم من التعرض للعنف الجسدي أو النفسي.
وطالب بضرورة تفعيل المتابعات القضائية في حق كل معتدٍ، بدون أي تساهل، من أجل إعطاء المثال وردع من تسول له نفسه المساس بحرمة المؤسسة التعليمية وكرامة أطرها.
ولا يعد العنف الممارس من قبل بعض التلاميذ على الأساتذة " ماركة" مسجلة باسم المغرب، بل هناك العديد من التجارب الغربية التي تعرف نفس الظاهرة.
فقد كشفت بعض تقارير وزارة التربية الوطنية في فرنسا، أن العديد من الأساتذة يتعرضون سنويًا لأشكال مختلفة من العنف، تراوح بين الاعتداءات اللفظية والمضايقات، وصولًا إلى العنف الجسدي.
وأدت هذه الوضعية الحكومة إلى إطلاق برامج للوقاية والدعم النفسي، وتعزيز الأمن داخل المدارس، بالإضافة إلى تعديل بعض القوانين لتوفير حماية أكبر للأطر التربوية.
أما في بريطانيا، فقد كشفت دراسات عن ازدياد حالات "التحرش الرقمي" من طرف التلاميذ ضد الأساتذة، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم التشهير بهم أو تهديدهم، ما انعكس سلبًا على الاستقرار المهني والنفسي لهيئة التدريس. وقد أدت هذه الظاهرة إلى مطالبات بتشديد الرقابة الرقمية، ودمج التربية الرقمية ضمن المناهج الدراسية.
الأمر لايختلف كثيراةفي الولايات المتحدة، فقد أصبحت بعض المدارس تعتمد على الحراس الأمنيين وكاميرات المراقبة بسبب انتشار العنف داخل الأقسام الدراسية، كما أن بعض الولايات أصدرت تشريعات تجرم الاعتداء على المعلمين بشكل صريح، وتمنحهم الحق في متابعة المعتدين قضائيا.
