علينا أن ننتبه إلى أن العنف في الملاعب يقدم لنا مقترحا كاملا لإعادة فهم بنية المجتمع وتحولاته، في ضوء مجموعة من الاقتراحات البحثية التي تبدأ من تخريب المرفق العام، ولا تنتهي في الحمولة التعبيرية القوية للشعارات المرفوعة في المدرجات، أو في سلوك الجماهير تجاه الخصوم الرياضيين والحكام، بل تجاه أصحاب القرار والمسؤولين عن وضع السياسات، ليس داخل الملعب فقط، بل أيضا خارجه.
وبما أن الإلترات تعتبر أقوى معبر عن هذا «العنف»، فإن «الإلترات» تحرضنا، على مستوى تكوينها وسيرورتها، على الانتباه إلى تحولاتها، بل تدعونا إلى الاشتراك في إعادة تركيبها وفهمها، خاصة أننا مقبلون على استحقاقات رياضية قارية «كأس إفريقيا 2025» ودولية «كأس العالم 2030».
إن «الإلترات» في المغرب، وفي غيرها من المجتمعات المعروفة بشغفها الكبير لكرة القدم الذي قد يصل إلى التعبير العنيف، ثقافة جديدة تتجاوز حدود المدرجات لتصل إلى قلب المجتمع، وهي ليست مجرد تشجيع رياضي بحت، بل حركة تعبيرية قوية عن الهموم الاجتماعية والسياسية، بل عما يمكن أن نسميه «التمثل الجماعي» لعلاقة المواطن بالفاعل السياسي. ولعل أبرز مثال على هذا الامتداد التعبيري وتجاوزه للفضاء الرياضي: الأغنيتان الشهيرتان لجماهير الرجاء البيضاوي، «في بلادي ظلموني» و «رجاوي فلسطيني»، اللتين انتشرتا بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي وتداولتهما المنابر الإعلامية العربية والدولية. إذ بدا واضحا أن الأغاني التي صار يرددها الآلاف «صوت احتجاجي» لا يعبر عن انشغالات رياضية فقط، بل يتعدى ذلك إلى التماهي مع القضايا الوطنية الملحة، من قبيل «القضية الفلسطينية؛ احتجاجات الأساتذة المتعاقدين؛ استفحال الفساد؛ انتشار التعاطي للمخدرات؛ البطالة؛ الهجرة السرية.. إلخ». وقد يصل بها الأمر، في حالة المواجهة المباشرة، سواء مع جمهور الخصم أم مع القوات العمومية، إلى «استثمار العدد» من أجل القيام بأعمال تخريبية يجرمها القانون، وخاصة الاعتداء أو إلحاق الضرر بملك الغير، مما يطرح أكثر من سؤال حول «الثقافة الألتراسية» التي يحتاج إليها المغرب لإنجاح «اللحظة المونديالية»، أي تلك اللحظة التي ستتحول فيها بلادنا إلى نقطة ارتكاز للاهتمام الدولي، ليس على مستوى كرة القدم، بل على مستوى الممارسة الثقافية ومدى انتمائه إلى المجال الكوكبي الذي تتقاطع فيه الهويات والثقافات.
فإذا كان صحيحا أن الثقافة الألتراسية تعكس قوة الانتماء المغلق والهوية المتجذرة، فهل يجب ترك الحبل على الغارب لهذا الانغلاق، دون أي تدخل تربوي وثقافي وإعلامي يؤهل هذه المجموعات لتكون في مستوى اللحظة، خاصة أن مبادئها ترتكز أولا وأخيرا على الانضباط الصلب، وعلى الالتزام غير المشروط بالخدمة والعمل الجاد من أجل الفريق، الأمر الذي يؤدي إلى إنتاج وحدة قوية بين الأعضاء، مما يجعلهم أقوى وأكثر تأثيرًا في أي مجال يدخلونه؟.
إن المدخل لمواجهة العنف وتأهيل الجماهير هو العمل مع القوة الموحدة التي تمثلها الإلترات، والتعامل معها، منذ الآن، بوصفها جزءًا أساسيًا من التعبير الرياضي والاجتماعي والثقافي الذي سيحتاجه المغرب لترويج صورته وتمتيعها بال. ولن يتحقق ذلك إلا بإطلاق حوار جدي ومثمر معها، أي على شراكة بين الإلترات بوصفها حركة اجتماعية وثقافية حاملة للكثير من الرسائل والرموز وبين الدولة بوصفها الجهة الرسمية المنظمة للمونديال.
لن نقاوم العنف فقط بقوات مكافحة الشغب، ولا بالغازات المسيلة للدموع، ولا بالكلاب البوليسية المدربة، ولا بخراطيم المياه، ولا بالنظم الجزائية والتأديبية، بل أيضا بتأطير الجماهير تربويا وثقافيا وإعلاميا، والدفع باتجاه تحويل الإلترات إلى مرتكز بيداغوجي لمواجهة العنف داخل الملاعب، وتوجيه طاقاتها بشكل إيجابي نحو التشجيع النزيه والفعال والتعبير عن الفخر وقوة الانتماء، بل نحو المساهمة الواعية والفاعلة في الحد من أعمال العنف والشغب في الملاعب، ومقاومة التصرفات السلبية التي يمكن أن تحدث في المدرجات أو بعيدا عنها، في الأزقة والشوارع، وأحيانا في المحطات الطرقية.
يشير الفيلسوف إريك فروم في كتابه «المجتمع السوي»، إلى أن الإنسان في مجتمعاته الأولى كان يشعر بالهوية من خلال الانتماء إلى الجماعة، وهو شعور يلمسه أعضاء الألتراس الذين يجدون في فرقهم الرياضية عشيرتهم التي يحققون من خلالها الانتماء والهوية. غير أن الانتماء إلى لحظة المونديال تقتضي، في المقام الأول، ليس تحقيق الانتماء إلى «أسود الأطلس» فقط، بل الأكثر من ذلك تحقيق الانتماء إلى «المغرب الذي نريد»... مغرب التحدي والتسامح والاعتدال والحوار، أي إلى الحاضنة التاريخية لمختلف الثقافات.. وهذا يقتضي بطبيعة الحال إشراك الإلترات في تكوين أعضائها على التثقيف الرياضي والاجتماعي، وتدريبهم على كيفية التصرف بشكل سليم في الملعب، وعلى كيفية التعامل مع الضغوط النفسية التي قد تطرأ أثناء المباريات، وكيفية تجنب ردود الفعل العنيفة التي قد تضر بسمعة الفريق، بل بسمعة المغرب.
ويقتضي هذا التحدي أيضا أن تقوم الإلترات بتطبيق قواعد صارمة بين أعضائها لضمان حسن التصرف في الملاعب، من قبيل منع استخدام المواد الخطرة مثل الألعاب النارية أو المقذوفات، التي قد تسبب إصابات خطيرة، فضلا عن تعزيز مبادئ الاحترام بين المشجعين بغض النظر عن انتمائهم للفريق، مع التأكيد على أنه لا مكان للعنف داخل أجواء التشجيع، إضافة إلى تجنب الشعارات المستفزة للقوميات والتعبيرات الثقافية الأجنبية، وعدم الدخول في مهاترات سياسية قد تؤدي إلى ممارسات شائنة أو عنيفة، والتركيز على دعم الفريق بروح رياضية ومشرفة، والتنافس حول ابتكار أساليب هذا الدعم، على مستوى التيفوات والأغاني والمحتوى الإعلامي الذي يتم بثه على وسائل التواصل الاجتماعي، والسعي نحو تأسيس روابط مع الجماهير الأخرى من مختلف الأندية، بل من مختلف البلدان، في إطار «التوأمة» للتعاون في مجال محاربة العنف والتطرف، مما يساهم في نشر ثقافة تعزز من احترام المنافسين والحفاظ على سمعة الرياضة، ما دامت الروح الرياضية هي أم الركائز التي تؤمن بها الإلترات، جنبا إلى جنب مع التشجيع والانتماء الأقصى للفريق.
لقد بات من الجلي أن العنف في الملاعب لا يعكس دائما تصرفات فردية، بل قد يكون فعلا منظما مغطى بمسحة معتبرة من الاحتجاج على بعض الأزمات الاجتماعية «البطالة، الفقر، الإقصاء..». ولهذا، فإن التحدي الأساس هو تحصين الإلترات وبناء السياسات الوقائية على أساس أن تكتلات المشجعين قوة مؤثرة في محاربة العنف، ويجب عليها أن تستمر في نشر رسائلها الإيجابية والتأكيد على أهمية التشجيع الرياضي النظيف في إنشاء بيئة رياضية خالية من العنف..
