السبت 19 إبريل 2025
كتاب الرأي

عبد الحكيم الزاوي: المثقف الشرقي وفائض القوة

عبد الحكيم الزاوي: المثقف الشرقي وفائض القوة عبد الحكيم الزاوي
حضر إياد البرغوثي المتخصص في علم الاجتماع إلى مراكش الفيحاء وفي جَوفه قضية كبرى، وبالأحرى سَردية كبرى، سردية القضية الفلسطينية ومخاضاتها الحارقة المُتلبسة بجروح الذات وتمزق الوجدان...كان اللقاء في مُنتجع سياحي في ضواحي المدينة، من تنظيم موقع كش بريس والائتلاف الوطني للغة العربية بمعية مركز عناية الذي خصص الدورة الحادية عشر من مجلسه الفكري والثقافي احتفاء بالمفكر الفلسطيني...ولتنظيم اللقاء مع البرغوتي سياق يستوجب أن يحاط، وسط ضجيج الفوضى وتوحش العالم وتلذذه بسيولات الألم وانهيار الرصيد الأخلاقي وانتزاع الأقنعة من الوجوه...

في اللقاء استدراج إلى إعادة بِناء الرؤية؛ رؤية الشرق لنفسه، واستعاضة عن رؤية الغرب للشرق...ثمَّة وجوب حسب البرغوثي إلى تحرير الشرق ثقافيا، ودعوة إلى صُنع الهوية الجماعية الشرقية والتخلص من النظرة الغربية...ليس الشرقي اليوم إلا ذاك الذي تمَّ اصطناعه في كتب الاستشراق، وفي استيهاماتها المُتخلية عنها من كسل وعَنهجية وفقدان للمسؤولية ولحس المبادرة...يُلح البرغوثي على إعادة تشكيل الشرق لذاته، ولإنجاز العمل يُعوَّل هنا على مسؤولية المثقف؛ المثقف الثائر والحالم الذي ينطلق من الواقع ويتطلع لإحداث تشققات في جدرانه، ويَعبر من السرديات الجامعة إلى السرديات الصغرى...يُصر الغرب دوما على أن يَنظر إلينا كممر، ممر يُداس ويُنتهك دون أن يكترث إلى مشاعره وأحاسيسه من جاكارتا إلى طنجة...

فلسطين التي حَملها معه إياد البرغوثي هي الفضاء الذي يجمع وَصل المشرق بالمغرب، واسرائيل بما تنتهجه اليوم الفضاء الذي يُفرق وَصل المشرق بالمغرب. وكم هي بليغة هذه العبارة حين التأمل والتبصر...في الأفق سايكس بيكو جديد يُحضر فوق طاولة الكبار، نسخة جديدة لتقسيم المشرق العربي، وحديث في دهاليز الإدارة الاسرائيلية عن "النصر المطلق" وتطلع إلى ما وراء فلسطين...الصهيونية التي يَخبر البرغوثي ليست هي تلك التي نختزلها في ايديولوجيا الاحتلال وفقط، بله في ايديولوجيا المصادرة؛ مصادرة حرية الشعوب وتقويض مكتسبات الاجتماع البشري واخضاع العالم لفائض القوة...خُذ عنك مثلا، لا يتم منح الجنسية الألمانية لأي شخص إذا لم يعترف بإسرائيل أو بمحرقة الهولوكوست...أَوَ لسنا أمام مصادرة حقيقة لحرية الانسان؟ وحتى حينما نُولي بأبصارنا صوب ما جرى من حوادث القرن الماضي، ونعيد بعث السؤال المتكرر في دروس التاريخ من انتصر في الحرب العالمية؟ طبعا المنتصِر هنا ليس هو المتحارب، بل المنتصِر من تحكم في سلطة الرأسمال، في حركة الفكر، في مركز القرار، في تمويل الجيوش المتحاربة...من هو بالضبط؟ إنها الصهيونية...

منذ القرن الماضي، بدأت قصة صعود عائلة روتشليد تكتب كواحدة من القصص المثيرة للإعجاب، أبناء روتشليد انتشروا في أوروبا وتحكموا في أبناكها ومؤسساتها السيادية، في صناعتها وتجارتها وأسلحتها...وجعلوا العالم كله تحت سيطرتهم...لا شك أن السؤال الذي يُؤرق الجميع من يدير الآخر؟ أمريكا أم اسرائيل؟ الصهيونية تديرهما معا...

للفكر العربي سذاجة مُزمنة تُقرأ في الصدى الطويل لأنساق التفكير التاريخي. يَعتقد دوما أنه يُمكن أن يصنع السلام مع عقيدة لا تعبأ بقيم السلام...وفي حكاية أوسلو جواب ذلك لمن أراد أن يُعمِل عقله بدل قلبه. لم يكن دافيد بن غوريون إلا واحدا من نشطاء ثورة 1905 في روسيا ضد النظام القيصري، ولم يكن تروتكسي الزعيم الاشتراكي الجذري إلا موظفا عموميا عند مهندسي الصهيونية بمرتب محترم...أَفَبعد هذا لا نهتدي إلى معرفة من يُدَبر اللعبة السياسية؟ وبيد من توجد خيوط السحب والدفع؟ 

صاغت الصهيونية من خلف الركح قواعد القانون الدولي وتحكمت في نواميسه، واصطنعت المؤسسات والهياكل التي تدافع عن مشروعها القومي وحقها في فلسطين، وفي عُرفها الصديق هدف أسهل من العدو...في قضية فلسطين لم يَعد الغرب غربا، صار الغرب منكسرا، ومُتشضيا...وعندنا في الشرق، تمضي العقود سريعا دون أن نتوصل إلى إقرار مشروع، أهدافنا مشتتة ووسائل عملنا غير مجدية...تجاذبات اديولوجية هنا، وتناطحات طائفية هناك...ويجري البحث عن بعث أو اصطناع المثقف من أجل مواجهة فائض القوة عند الصهاينة سبيلا للتحرر.
 
عبد الحكيم الزاوي باحث وناقد