عندما ينطق الواقع والأرقام، فلا مجال للمزايدة والكلام.
فهذه دولة الفلبين، عبارة عن جزر متفرقة وموارد طبيعية محدودة، تضخ في خزينتها أكثر من 7 مليارات دولار من التحويلات المالية من بحارة وضباط الملاحة التجارية الفلبينيين، والذين يبلغ عددهم 550 ألفًا، منهم 350 ألف بحار و200 ألف ضابط بحري، مشكلين بذلك 2% من بحارة العالم، ويدبرون أكثر من 35% من الأسطول التجاري العالمي من سفن وناقلات نفط وناقلات بضائع وسفن رحلات بحرية.
فهذه دولة الفلبين، عبارة عن جزر متفرقة وموارد طبيعية محدودة، تضخ في خزينتها أكثر من 7 مليارات دولار من التحويلات المالية من بحارة وضباط الملاحة التجارية الفلبينيين، والذين يبلغ عددهم 550 ألفًا، منهم 350 ألف بحار و200 ألف ضابط بحري، مشكلين بذلك 2% من بحارة العالم، ويدبرون أكثر من 35% من الأسطول التجاري العالمي من سفن وناقلات نفط وناقلات بضائع وسفن رحلات بحرية.
في الإطار نفسه، تسعى الصين دائمًا إلى المحافظة على مكانتها باعتبارها ثاني أكبر مورد للبحارة في العالم، حيث يمثل بحارتها حوالي 33% من إجمالي القوى العاملة البحرية.
أما الهند، فهي ثالث أكبر مورد للبحارة الأكفاء في العالم، حيث يشكل بحارتها 70% من القوى العاملة البحرية. وعلى مدى السنوات السبع الماضية، شهدت الهند ارتفاعًا مهمًا بنسبة 42.3% في عدد الوظائف المتاحة على ظهر السفن للبحارة الهنود، سواء في السفن الأجنبية أو الوطنية. ويتوقع أن تزيد نسبة البحارة الهنود في القطاع البحري الدولي بـ 20% في العقد المقبل، بفضل وجود معاهد لتكوين وتدريب بحارة مؤهلين وفق المعايير الدولية، وخاصة الاتفاقية الدولية STCW.
وعلى غرار هذه الدول التي أدركت معنى التكوين، نجد إندونيسيا تستثمر في المادة الرمادية في عقول شبابها باعتبارهم الدعامة الأساسية للتنمية، وذلك من خلال تكوين صلب في معاهد بحرية إندونيسية تركز في برامجها على الجمع بين النظرية والممارسة، وعلى تعزيز الكفاءة المهنية وممارسات الملاحة، ومهارات القيادة والاتصال، وممارسات السلامة المهنية. وقد بلغ عدد بحارتها وضباطها 140 ألفًا، منهم 80 ألف بحار و60 ألف ضابط.
في هذا البلد، اتخذت الحكومة مبادرات تشجع على التعليم البحري عالي الجودة، وتطوير البنيات التحتية، والسعي الدائم إلى جلب الاستثمارات.
فأين المغرب من كل هذا؟
نعلم جميعًا أن بلدنا، ذي الواجهتين البحريتين، له تاريخ بحري زاخر بالتراكمات، ممتد في الزمن من خلال سفنه التجارية أو الحربية التي كانت تحمي الثغور.
نعلم جميعًا أن بلدنا، ذي الواجهتين البحريتين، له تاريخ بحري زاخر بالتراكمات، ممتد في الزمن من خلال سفنه التجارية أو الحربية التي كانت تحمي الثغور.
وإلى عهد قريب، ومنذ خمسينيات القرن الماضي، كانت سفن المملكة تمخر عباب البحر، محيطات وبحورًا، حاملة العلم الوطني، مجسدة السيادة البحرية، وسمعتها عمّت الآفاق، بمرجعية تاريخية وقانونية، من خلال التشريعات الوطنية، والانخراط في الاتفاقيات الدولية، نظير اتفاقية STCW، وكذا الانضمام إلى المنظمات الدولية، وخاصة المنظمة البحرية الدولية (IMO).
كان المغرب يملك أسطولًا بحريًا تجاريًا خالصًا، ورجال بحر أكفاء، نتاج تكوين صلب في معهد عالٍ، يُخرّج كفاءات عالية لها سمعتها الدولية، مدربين تدريبًا دقيقًا يجمع بين النظرية والممارسة، وفق أحدث المعايير الدولية، حيث أصبح هذا المعهد مقصدًا للأصدقاء الأفارقة.
وبفضل صلابة التكوين والتدريب، فُتحت الأبواب مشرعة أمام رجال البحر المغاربة للحصول على مناصب وولوج عالم الشغل بسهولة، بفضل الكفاءة التي يتوفرون عليها.
كان كل شيء متاحًا ليكون هذا القطاع آلية ناجعة لإدماج الشباب في عالم الشغل، وخاصة مع توفر المغرب على أسطول قوي. لكن، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، عندما امتدت أيادٍ خفية للإجهاز على ما راكمه المغرب من إنجازات، بتوفّره على الخبرة في الميدان، والموارد البشرية، والسفن العاملة التي كانت تشكل مدرسة للتكوين والتدريب.
أصبح الأسطول الذي كنا نفتخر به أثرًا بعد عين، وتحوّل المغرب البحري إلى سراب، على إثر مسلسل النزيف الذي بدأ سنة 2007، عندما تقررت سياسة تحرير قطاع الملاحة التجارية بمقتضى القانون 15.02 المتعلق بالملاحة التجارية، والذي دخل حيز التنفيذ في أبريل 2007. هذا القانون، الذي استلهم مرجعيته من تقرير مكتب الدراسات الإنجليزي "دريوري"، هدف إلى إلغاء نظام الامتياز الحصري، ومنح الحق لأي شركة بحرية، وطنية أو أجنبية، في الولوج إلى السوق المغربية.
لكن، غياب الحكامة الجيدة والمواكبة المطلوبة، أفرغ هذا المسار من مضمونه، في غفلة من الحكومات المتعاقبة، فنتج عن ذلك فقدان الأسطول، ومعه الهوية المغربية. مما جعل جلالة الملك، برؤيته الاستراتيجية الثاقبة، يدعو من خلال خطاب 6 نونبر 2023 إلى التفكير في "تكوين أسطول بحري تجاري وطني قوي وتنافسي"، مع تأكيد جلالته على "ضرورة تسهيل الربط بين مختلف مكونات الساحل الأطلسي، من أجل تحويل الواجهة الأطلسية إلى فضاء للتواصل الإنساني والتكامل الاقتصادي والإشعاع القاري والدولي".
لقد بعثت مضامين الخطاب الملكي الأمل في نفوس رجال البحر، والطلبة، والمهنيين، والمتتبعين للشأن البحري التجاري، بما يرجع الأمور إلى نصابها، ويواكب الطفرة الاستثمارية في البنيات التحتية المينائية. لكن، منسوب التفاعل الحكومي فيما يخص إشكالية الأسطول البحري والتكوين بقي دون الانتظارات والبعد الاستراتيجي للرؤية الملكية الأطلسية.
فجلب الاستثمارات الوطنية والدولية لا يزال بطيئًا، وتدبير التكوين والتدريب في المعهد العالي للدراسات البحرية ليس في مستوى الرهانات، بما يعرفه من تراجعات خطيرة، واحتقان دفع الطلبة الضباط إلى الاحتجاج، بفعل ما يُمارس عليهم من تعسف وإقصاء.
لم تبرهن إدارة المعهد، وفق المؤشرات الحالية، على انخراطها في مسار واضح وفق حكامة جيدة لاعتماد تكوين صلب للضباط، على منوال الدول مثل الفلبين وروسيا والصين وإندونيسيا وتركيا وأوكرانيا والهند، دولٍ ذاع صيتها بكفاءة بحارتها ونوعية التكوين الذي أهل خريجيها في ميدان الملاحة التجارية، وجعلهم مطلوبين عالميًا.
فماذا يجري في المغرب؟
عصف "التحرير" بالأسطول التجاري، وامتدت أيادٍ، في واضحة النهار، إلى المعهد لتدق آخر مسمار في نعش الملاحة التجارية في بلد بحري بامتياز، حسب التاريخ والجغرافيا.
عصف "التحرير" بالأسطول التجاري، وامتدت أيادٍ، في واضحة النهار، إلى المعهد لتدق آخر مسمار في نعش الملاحة التجارية في بلد بحري بامتياز، حسب التاريخ والجغرافيا.
الخوف كل الخوف أن يجري للمعهد ما جرى للأسطول المغربي، ويصبح فضاء يُفرّخ العاطلين بعد خمس سنوات من التحصيل، تحت مسمى "تكوين المهندسين"، في حين أن الملاحة التجارية تتطلب ضباطًا، ربابنة، ميكانيكيين وبحارة ممارسين، وليس طلابًا محشوة عقولهم بالنظريات وفق النظام الجامعي الذي يعاب عليه الكثير.
كان المعهد يعتمد برامج دقيقة، تجمع بين الممارسة والنظرية، وتفرض على الطالب التدريب فوق ظهر السفينة لشهور، ثم العودة إلى المعهد لمتابعة الدروس النظرية والعملية، على أيدي مكونين هم في الأصل ضباط مارسوا المهنة لسنوات، وليس أساتذة جامعيين استُقدموا إلى المعهد لأنهم فقط ذكروا "كلمة البحر" في أطروحاتهم الجامعية.
إن التكوين والتدريب في مجال الملاحة التجارية له خصوصياته ومعاييره وضوابطه المنصوص عليها عالميًا. وهذا ما كان يُعمل به سابقًا، لأن المغرب سبق العولمة قبل العولمة، وكان يُمكّن طلبته الضباط من الكفايات اللازمة لنيل شواهد BREVETS التي تعترف بها المنظمة البحرية الدولية (IMO)، حسب اتفاقية STCW.
كان المغرب وفيًا لتاريخه البحري، ومدركًا لأهمية الممارسة فوق السفينة، حسب ابن خلدون الذي يقول: "ركوب البحر ممارسة".
اليوم، غلّبت إدارة المعهد النظرية على التطبيق، وحتى إن قررت التطبيق، فهو ناقص وصوري، لذر الرماد في العيون. فضل المنظرون، وأُعطي لهم زمام التكوين والتدبير الإداري، على حساب الجامعين بين النظرية والممارسة، ناسين أو متناسين أن الملاحة التجارية مرتبطة بما يقود الباخرة، وليس ما يجاورها من ماء أو يابسة.
باستثناء الضباط الرواد العاملين بقبطانيات الموانئ، الذين يقومون بوظيفة تفتيش السفن، وهم مهددون بالانقراض في أفق خمس سنوات. فمن يعوضهم؟ ومن يعوض أطر مديرية الملاحة التجارية من رجال البحر؟
لا ندري لماذا لم تلتفت الحكومة إلى مناصب الشغل المهدورة، التي لو دُبّرت بشكل حكيم، لوفرت الآلاف منها، من خلال تكوين وتدريب كما في السابق، واعتماد اللغة الإنجليزية. فهذه هي الوصفة التي استعملتها دول عديدة لتوريد بحارتها للعالم.
ودليلنا على ذلك، أن شركة إنجليزية كانت تعمل في نقل المسافرين عبر مضيق جبل طارق، وضعت ثقتها في البحارة المغاربة، وعندما غادرت المغرب، أخذتهم معها إلى بريطانيا.
وعلى سبيل الخلاصة:
الاستثمار في العنصر البشري في قطاع الملاحة التجارية هو منجم غني، غنى جبل تروبيك.
وما يحوّله ضابط ملاحة تجارية يعادل 30 مرة تحويلات امرأة في حقول التوت بإسبانيا.
الاستثمار في العنصر البشري في قطاع الملاحة التجارية هو منجم غني، غنى جبل تروبيك.
وما يحوّله ضابط ملاحة تجارية يعادل 30 مرة تحويلات امرأة في حقول التوت بإسبانيا.
فمن يريد الإجهاز على المكتسبات: أسطولًا وتكوينًا؟
لا مجال للتلاعب مع قطاع استراتيجي,لا مجال للمخاطرة بمستقبل الأجيال المهندس له مجاله وربان السفينة له مجاله والتداريب على متن السفن ليس مجرد روتين إنها تداريب على البقاء .وربما السفينة ليست مجرد مهنة إنها مسؤولية تجاه السفينة وطاقم البحر نفسه .
لا مجال للتلاعب مع قطاع استراتيجي,لا مجال للمخاطرة بمستقبل الأجيال المهندس له مجاله وربان السفينة له مجاله والتداريب على متن السفن ليس مجرد روتين إنها تداريب على البقاء .وربما السفينة ليست مجرد مهنة إنها مسؤولية تجاه السفينة وطاقم البحر نفسه .
فيا رئيس الحكومة، ويا وزير النقل: لا تناموا، قوموا واعملوا حتى لا نستفيق يوما على مغرب بحري بلا بوصلة .