السبت 12 إبريل 2025
كتاب الرأي

مصطفى عنترة: المعارضة بين حدود النص الدستوري وإرادة الفعل السياسي

مصطفى عنترة: المعارضة بين حدود النص الدستوري وإرادة الفعل السياسي مصطفى عنترة
تعيش الساحة السياسية على وقع نقاش حاد فجّرته قضية الدعم العمومي المخصص لاستيراد الأغنام، وما رافقها من تضارب في التصريحات بين الوزير الإستقلالي نزار بركة والقيادي التجمعي الطالبي العلمي، تجاوز أروقة البرلمان ليصل إلى وسائل الإعلام وليتحول إلى قضية رأي عام بامتياز.
 
قضية الدعم العمومي المخصص لاستيراد الأغنام من الخارج كشفت ليس فقط عن خلل في تدبير ملف حيوي، بل أيضاً عن توتر داخل التحالف الحكومي نفسه. 
 
هذه الواقعة أعادت إلى الواجهة، النقاش حول وظيفة المعارضة في النظام السياسي المغربي، وحدود أدواتها الدستورية، وسقف الفعل الممكن في ظل توازنات مختلة. فهل المعارضة اليوم قادرة على أن تتحول إلى قوة اقتراح ومساءلة حقيقية، أم أن موقعها سيظل محكوماً بميزان القوى داخل المؤسسات؟
 
 لم يكن الجدل مجرد سجال سياسي عابر، بل شكل عنوانا بارزا لحالة من التصدع داخل التحالف الحكومي، فهو لم يعكس فقط ضعف الانسجام بين مكوناته، بل كشف عن توترات صامتة بدأت تخرج إلى العلن، وتضعف قدرة الحكومة على تقديم خطاب موحد ومتماسك تجاه قضايا حيوية تمس حياة المواطنين بشكل مباشر. وهو ما يطرح أسئلة جدية حول القدرة على إدارة الملفات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي تؤثر في معيش المواطن المغربي.
 
في خضم هذا السياق، وجدت المعارضة نفسها أمام فرصة سياسية لتأكيد دورها الرقابي وطرح الأسئلة الجوهرية حول تدبير المال العام، ونجاعة السياسات الحكومية، ومصداقية المعطيات الرسمية. غير أن تباين مواقف مكوناتها كشف بدوره عن نوع من التردد في الحسم، حيث تراوحت ردود الفعل بين من دعا إلى تفعيل آلية لجنة تقصي الحقائق باعتبارها أداة رقابية دستورية، وبين من رفع سقف المواجهة السياسية مطالبا بتقديم ملتمس رقابة ضد الحكومة.

المعارضة بين الانكماش المؤسساتي وإمكانات الفعل خارج البرلمان
لكن سرعان ما اصطدمت هذه المقترحات بواقع النصوص الدستورية.فاللجنة النيابية لتقصي الحقائق مشروطة بنصاب قانوني صارم لا تملكه المعارضة الحالية، وهو ما يجعل هذا الخيار أقرب إلى مواقف رمزية منها إلى أدوات فعلية للتغيير أو المحاسبة. هنا يطرح السؤال المحوري: ما العمل؟
 
هل تكتفي المعارضة بهذا الحد؟ وهل تظل حبيسة البرلمان، رهينة التوازنات العددية والمؤسساتية، أم أن أمامها أفقا سياسياً أوسع لممارسة وظيفة المعارضة في معناها الشامل؟ وبمعنى اكثر وضوحا، هل تقبل بالامر الواقع او الانكماش داخل المؤسسات فقط؟
 
ولعل ما يمنح المعارضة اليوم نقاط قوة إضافية هو الوضع الاجتماعي المتدهور، وغلاء الأسعار، وتراجع القدرة الشرائية..، وهي كلها معطيات تعكس أزمة اجتماعية خانقة قد تتحول إلى وقود للاحتجاج والانفجار، إن لم تتم معالجتها بحكامة سياسية فعالة. في المقابل، لا تزال الحكومة تتخبط في تناقضاتها، وتخضع لمنطق تقنوي صرف يفتقر إلى العمق السياسي والرؤية الاجتماعية الشاملة.
 
الجواب، في اعتقادنا، يكمن في تجاوز النظرة الضيقة لوظيفة المعارضة. فالدستور المغربي، وإن كان يقيد بعض المبادرات داخل المؤسسة التشريعية، إلا أنه لا يمنع المعارضة من ممارسة دورها السياسي الكامل عبر قنوات متعددة خارج البرلمان. كيف ذلك ؟

يمكن للمعارضة أن تدعم المجتمع المدني والنقابات العمالية، والهيئات المدافعة عن المال العام وحماية المستهلك، وتوظف الإعلام بمختلف وسائطه، لخلق دينامية ضغط حقيقية. بل أكثر من ذلك، يمكنها أن تفتح نقاشاً عمومياً حول القضايا المفصلية، وأن تساهم في تعبئة الرأي العام، وتنويره بالمعطيات الحقيقية، ما دام جزء كبير من الصراع السياسي اليوم يتم في ساحة الإعلام والرأي العام، وليس فقط تحت القبة البرلمانية.
 
وما يعزز قدرة المعارضة على التحرك خارج المؤسسات هو الواقع الاجتماعي الصعب الذي يعيشه المواطن. فغلاء الأسعار، وتقهقر القدرة الشرائية، واستفحال مظاهر الفقر والهشاشة، وتراجع جودة الخدمات العمومية وتنامي لوبي الفساد الإداري ونهب المال العام والإغتناء غير المشروع ...، تشكل كلها أرضية خصبة لأي فعل معارض يسعى إلى إعادة الاعتبار للفعل السياسي النبيل.

إن المعارضة تمتلك، اليوم، ورقة ضغط قوية، وهي تضاؤل الثقة المتزايد في الأداء الحكومي، والتذمر الشعبي من الوعود غير المنجزة، والشعارات التي لم تجد ترجمتها الفعلية على أرض الواقع، خاصة في ظل التحولات الاقتصادية العالمية التي زادت من معاناة المواطنين.
 
الحاجة إلى معارضة حقيقية في مواجهة هشاشة اجتماعية وتحديات ديمقراطية
لكن لكي تكون المعارضة فعلاً في مستوى المرحلة، فإن الأمر يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وثقافة ديمقراطية تؤمن بدور المعارضة كمكون أساسي في البناء السياسي، وليس مجرد ورقة ضغط ظرفية أو مناورة تكتيكية. فالمعارضة ليست رسائل مشفّرة تُوجَّه إلى الحزب القائد للحكومة طمعا في موقع ضمن حكومة مستقبلية ( حكومة المونديال المنتظرة). 
 
للأسف، تظهر في بعض الأحيان مؤشرات على نوع من الإزدواجية في الخطاب السياسي لدى بعض الفرقاء،(ولا اقول الجميع)، ممن يمارسون معارضة لفظية، فيما تبقى حساباتهم الانتخابية والشخصية هي المحدد الرئيسي لمواقفهم. وهذا النوع من المعارضة لا يخدم لا الوطن ولا المواطن، بل يساهم في مزيد من تبخيس العمل السياسي، وفتح الباب أمام الشعبوية والتذمر.
 
لماذا؟ لأن المعارضة ليست مرادفاً للانتظار، بل هي ممارسة يومية تتطلب إرادة سياسية، وشجاعة أخلاقية، ومسؤولية وطنية، والتزاماً حقيقياً بقضايا الوطن والمواطن.
 
صحيح، لا يمكن إنكار أن الحزب القائد للتحالف الحكومي، يمتلك اليوم أدوات قوة كبيرة، ليس فقط من خلال موارده المالية واللوجستيكية، ولكن أيضاً عبر اختراقه لمجالات متعددة: من الإعلام الرقمي والتقليدي، إلى شبكات رجال الأعمال، والقدرة على استقطاب الأطر والفعاليات المؤثرة في المجتمع... كما أن حضوره في عمليات التعيين في مناصب المسؤوليات، وتوزيع الدعم، وتوظيف المؤسسات...، يمنحه قدرة على إعادة تشكيل المشهد السياسي وفق أجندته الخاصة. وهذه حقيقة لا يمكن التنكر لها.
 
نأمل أن يكون تقديرنا للوضع مبالغاً فيه، لكن التجربة السياسية المغربية علمتنا أن ازدواجية الخطاب والركوب على اللحظات الاجتماعية الحساسة والانخراط في تحالفات غير مبدئية، كانت دائماً سبباً في إهدار فرص التغيير الحقيقي، وفي تضييع مصالح المواطن الذي يدفع دائماً ثمن صراعات النخب ومصالحها الضيقة.
 
إننا أمام لحظة سياسية دقيقة، تستدعي من المعارضة أن تتحمل مسؤوليتها كاملة، وان ترتقي إلى مستوى هذه اللحظة من حيث صعوباتها وتحدياتها وانتظاراتها،  لا أن تظل رهينة خطاب رمزي أو مناسباتي. فالمعارضة ليست انتظاراً، بل هي فعل يومي، ومساهمة أساسية في توجيه السياسات، وتوسيع فضاء المشاركة، وتقديم بدائل واقعية.
 
المواطن المغربي اليوم، لم يعد يكتفي بالشعارات، بل يطالب بأجوبة ملموسة، ومواقف واضحة، ومعارضة حقيقية.
الزمن السياسي لا يرحم المترددين، والمواطن بدوره لم يعد يقبل بنصف مواقف ونصف معارك. فهل ترتقي المعارضة إلى مستوى اللحظة؟