بدايةً، لا يمكن أن يكون هذا الحديث، بهذا العنوان، سوى عن بلد واحد بعينه، وهو البلد الجار من جهة الشرق، والذي خرج منذ نحو أربع وستين سنةً في رحلة بحثٍ عن تاريخ يضعه على قدم المساواة مع كل بلدان العالم، مادام لكل واحد من تلك البلدان تاريخ يميّزه عن غيره، ويحفظ له خصوصياتِه وسماتِه الثقافيةَ وتٌراثَه الشعبي، ويجعله من هذا المنظور مؤهَّلاً لخوض كل أشكال الحوار الحضاري والثقافي مع باقي البلدان، سواء تعلق الأمر بحوار سلمي يتحقق به مبدأ التعاون والتشارك والتكامل، أو تعلق بحوار عدائي عسكري يتحقق به هو الآخر مطلب التدافع من أجل السبق والتميُّز، فكِلا الحوارين صالحان وكلاهما يخدم سنة السيرورة والصيرورة والتطوّر !!
كل هذا يتيسّرُ فهمُه والتعاملُ معه، لولا أن مسيرة البحث عن التاريخ في ذلك البلد الجار أخذت منحى لم يسبق له مثيل... فكيف ذلك؟
لنتفق أولاً على أنّ التاريخ، أي تاريخ، لا يتحقق له أدنى وجود أو حضور إذا لم ترافقه جغرافيا تضع له حدودَه، وتَخُصُّهُ برسمٍ يكون منه بمثابة الجسد حتى يسهل التعرف عليه، وعلى إحداثياته في الزمان والمكان معاً... فالأمر "زمكانيٌّ" كما يقال في أدبياتنا الحديثة... ومن هنا جاءت الفَوْرة والجذبة اللتان أصابتا يافوخ الجار، بمجرد نيله مرسوم تقرير مصيره من يد مالٍك زمامه، الفرنسي، في شخص الجنرال شارل ديغول، الذي صرّح بالمناسبة، بالصوت والصورة، بأنه لم يكن هناك "أبدا"، ومنذ ليل التاريخ، لم يكن هناك أي وجود لبلد ذو سيادة اسمُه "الجزائر"، وأنه لم يكن بالرقعة التي ستحمل هذا الإسم، بمقتضى المرسوم الرئاسي الفرنسي، سوى مجموعات سكانية تعاقبت انتماءاتُها في كل حقبة تاريخية إلى كيان مختلف، فتارةً قرطبي، وتارة روماني، وأخرى بيزنطي، وتارةً نوميدي، وتارة تركي كرغولي، وأخرى وأخرى... إلى أن استقر الأمر به على هذه التسمية، التي توحي بدورها بجمعٍ من الشتات، ومن الجزر، وإن لم تكن جزراً من اليابسة داخل البحر فإنها على الأرجح جزرٌ في الفهم والمعنى تدل فعلا على الشتات!!
والمتأمل في الجغرافيا الراهنة، لذلك الجار الفِصامي، لن يفتأ ان يجدها أشبه ما تكون برداء الدراويش، بالمدلول الصوفي لهذا الوصف، حيث هناك مجموعة من الخِرق الأرضية المتلوِّنِ كلٌّ منها بلون مختلف عن الآخر، إذ منها اللون المغربي، واللون التونسي، والليبي، والمالي، وربما حتى النيجري، لأن "مالك اليمين" الفرنسي (نسبة إلى الاصطلاح الفقهي "مِلك اليمين") خاط جغرافيا ذلك الجار من مجموعة أسمال وخِرَقٍ اقتطعها من جغرافيات البلدان المذكورة، ساعة كان يستعمر بعضها، ويبسط حمايتَه على بعضها الآخر، فلما نال ذلك الجار مرسوم تقرير مصيره جاء شكلُه على هذا النحو من التراث التاريخي والجغرافي المسروق بألوانه المتعددة، والتي تفضح أصوله القادمة من سَديمٍ تاريخيٍّ مُهْوِل!!
هذا الوضع الغريب والعجائبي لا يحس بثقله ووطأته غير أهل ذلك البلد الجار بالذات، لأنّ الأمر هنا يتعلق بإسفينٍ حادٍّ لا يمكن أن يشعر بوكْزته إلا المُصاب به... ولذلك تصلنا من هناك ليل نهار صرخات مدوّية ليس لها مثيل!!
والأدهى من كل ذلك والأمَرّ، أن جارنا الشرقي، تحت تأثير حُمّى تَطَلُّعِهِ إلى مرفأٍ يُرسي فيه سفن بحثه عن ذلك التاريخ المستعصي، يخرج إلى العالم من حوله بين كل صرخة وأخرى بمعطيات "تاريخية" ما أنزل الله بها من سلطان، حتى أنه صار مضرب المثل في هلوساته "التاريخانية" وصار مثاراً للضحك والسخرية بين كل الثقافات!!
لقد ادّعى بأنه البلد الذي انبثقت من تاريخه التليد دولة المملكة المغربية، حتى وهو يعلم حق العلم بأن العالم من حوله يكاد يحفظ أحداث ووقائع وملاحم التاريخ المغربي، الذي لا يقل امتداده عن ثلاثة عشر قرنا من عمر الدولة المغربية القائمة، وهو العمر الفضفاض الذي كان المغرب فيه إمبراطورية تشمل رقعة شاسعة من الأبيض المتوسط إلى نهر السينغال، قبل أن يتطوّر إلى سلطنة مُحكمة التنظيم، ثم إلى مملكة عصرية لها وزنُها المُعتبَرُ عربياً، وإفريقياً، ومتوسطياً، وعالمياً... ويعلم حق العلم أيضاً بأنه هو ذاتَه ككيان منظّم لم يشهد النور إلا سنة 1962 بذلك المرسوم التَّعِس، الذي تبرّع عليه بوصف "دولة"، ومِن ثَمَّ بالإسم والرسم اللذين صارت تحملهما هذه الدولة!!
وليت الأمر وقف عند حد محاولة اختطاف التاريخ المغربي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، وكثير جداً، فهو البلد الذي خرج منه حكام مصر الفرعونية وأهراماتهم؛ وهو البلد الذي يحتضن قبور معظم الأنبياء؛ وهو البلد الذي تقع فيه الكعبة الأصلية، إذ ما الكعبة الموجودة بأم القرى سوى محاكاةٍ للكعبة الجزائرية؛ وهو البلد الذي خرج منه مكتشف قارة أمريكا؛ والذي ينتمي إليه أسطورة الكرة الأرجنتينية ميسي؛ وهو البلد الذي ظهر فيه أول مفسر للقرآن؛ وأول مبتكِر للحروف العربية؛ وأول مكتشف للذرة؛ وهو الرُّبْع الذي خرجت من إحدى بلداته الصحراوية الملكة بلقيس؛ وامرأة عزيز مصر زليخة، التي راودت النبي يوسف عن نفسه... وليس ببعيد أن يدعي ذلك الجار أن بوتين وترامب ورئيسة الحكومة الإيطالية الحسناء جورجيا ميلوني من أصل جزائري... والبقية عند علاّم الغيوب!!
الحالة مَرَضية بكل دلالات الكلمة، والذين يدّعون كل هذا ويخرجون إلينا بهذه "القفشات" ليسوا في ذلك البلد الجار مِن "أيها الناس"، بل هم جميعُهم من مثقفي البلد وأساتذته ومؤرخيه وسياسييه البارزين... وحدِّث في هذا المسار الفِصامي ولا خرج!!
نهايته... الناس هناك يبحثون لهم عن تاريخ، وما زالوا يبحثون، وقد نكتشف ذات يوم أنتم وأنا وكل الأغيار في مغربنا، إن بقينا أحياء، أن أصولَنا نحن أيضا من تراب ذلك البلد، الذي يختزل التاريخُ أصلَه في ورقة يتيمة عليها خاتم رئاسة الجمهورية الفرنسية الخامسة، ومذيلة في قعرها بأربعة معطيات جاء فيها: "يوم كذا، شهر كذا، 1962"... عجبي !!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.