فاس حاضرة تاريخ بلاد المغرب بعد الفتح الاسلامي. اقترن حضورها في مشهدية الكتابة التاريخية بجامعها أو جامعتها القرويين. الارتباط بين فاس الحاضرة والجامع/ الجامعة يكاد يُماثل ضَفيرة شعر معقودة لا انفصال لبعضهما عن البعض. لم تحظ معلمة أثرية في بلاد الغرب الإسلامي مثلما حظيت به معلمة القرويين في تاريخ المغرب . لا تبرز فاس في كامل أناقتها العمرانية إلا هي مُتوشحة بجمال جامعتها الزهراء التي اختصت في علوم العقل والنقل، وجذبت إليها نخبة العلم والفقه والحديث من كل ربوع العالم الإسلامي وخارجه. كانت الجامعة سليلة محيطها، وقد نقل عنها المستشرق البولوني الأصل البريطاني الجنسية روم لاندو تفاصيل دقيقة عن توقير علماء جامعة القرويين من طرف أهل فاس"...عندما يَظهرون في الشارع يلبسون ملابس بيضاء، ويظهرون بسحنة الوقار، ويسيرون بتؤدة دون أن يلتفتوا يمينا أو يسارا، وإذا مرَّ بهم أمِّي أو صاحب دكان أو تاجر أو موظف، يلزم أن ينحني ويحاول تقبيل اليد، أو على الأقل لمس الكِساء، وتقضي الآداب بعدم ظهورهم في الأسواق أو المقاهي أو الحمامات العامة... ".
هندسة القرويين المعمارية بزَّت خصيماتها في العُمران الديني. وكانت القرويين بحق ضرَّة مسجد ابن يوسف في مراكش، وجامع الزيتونة في تونس، والجامع الأزهر في القاهرة...في الأول، كان الفضاء الذي اختصته فاطمة الفهرية "أم البنين" سنة 245ه- 859م بسيطا يتألف من بيت للصلاة وصحن وصومعة في الضفة اليمنى لوادي فاس "عدوة الأندلس ". بعض من معالمه الأولى توحي بأنها مستوحاة من هندسة جامع الأمويين في دمشق. كان الفضاء فضاء للصلاة والتعبد، وأضحى فضاء للعلم والتدريس وتخريج العلماء. من القرويين تخرج كبار علماء الغرب الإسلامي، وشاعت أخبارها في كل أنحاء أوروبا والعالم. وفي الحاضر، درجت منظمة اليونسكو على تصنيف جامعة القرويين ضمن أقدم جامعات التعليم العالي في العالم، بله ضمن أولى الجامعات التي منحت إجازة في الطب البشري عام 603ه- 1207م كتبت على رِق غزال بخط أندلسي بديع، كانت قد مُنحت لطالب يدعى عبد الله الكتامي من قبل لجنة متألفة من ثلاث أطباء من أكابر أطباء الغرب الإسلامي: ضياء الدين بن البيطار، أحمد النبطي وأحمد الإشبيلي. ولا تزال الوثيقة الشاهدة محفوظة في جامع القرويين.
في القرويين شاعت كراسي العلم التي اختصت في نوازل القضاء والفقه والحديث...حضرها طلبة وحرفيون، ولاة وقضاة، فقهاء وأطباء...وشملت كراسي العلم التاريخ والأدب، الفقه والحديث، التفسير والطب...وكانت منارة الفقه المالكي بامتياز. من القرويين برز النبوغ المغربي كما تحدث عنه الأديب عبد الله كنون، النبوغ بصيغة التأنيث مثل أم الحسن بنت سليمان المكناسي، والطبيبة أم عمرو بنت أبي مروان، والأديبة الشاعرة ورقاء بنت ينتان، والمختصة في علوم الشريعة ست العرب الحضرمي...ومنها أيضا تخرج الشيخ الزويلي المتوفى سنة 719، وابن البناء المتوفى سنة 713، والفقيه الحناني المتوفى سنة 761، والخطيب ابن حلال المتوفى سنة 1980 ...
في شأن السيدة المؤسسة، تنتسب فاطمة بنت محمد الفهرية القرشية إلى ذرية الفاتح عقبة بن نافع الفهري مؤسس مدينة القيروان. تحكي مصادر التاريخ أن فاطمة الفهرية شيدت الجامع بالمال الذي ورثته من والدها. وقبل ذلك، رددت مصادر العصر الوسيط في شأن تاريخ تأسيس فاس على عهد إدريس الثاني قصة هجرة القيروانيين من تونس نحو المغرب الأقصى، سكن هؤلاء حيا في فاس سيسمى ب «عدوة القرويين"، وكان من ضمن المهاجرين الفقيه القيرواني محمد بن عبد الله الفهري والد فاطمة الفهرية، رجل ذو جاه ونسب ومال وفير.
استمرت جامعة القرويين في عطائها العلمي رغم تبدل أحوال السياسة وتعاقب فترات القوة والضعف على معيش المدينة. يعود السبب في ذلك حسب المؤرخين إلى ارتباط الجامعة بأوقاف إسلامية ضمنت لها الاستقلالية عن خزينة الدولة. وفي كثير من اللحظات، استعانت الدول في تاريخ المغرب بخزينة القرويين لدرء نائبة، أو بناء مرفق، أو استعدادا لحرب...تفردت جامعة القرويين من حيث اللباس بالبرنس الأبيض عوض الأسود الذي اشتهر في دولة العباسيين في المشرق حتى اقترن لقبهم ب «المُسَوِّدة".
ارتدى شيوخ وفقهاء القرويين اللباس الأبيض. في شان ذلك يقول عبد الهادي التازي في كتابه جامع القرويين: المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة لتاريخها المعماري والفكري"...اختار المغاربة اللون الأبيض، ومن المصادفات أن يتفق الذوق المغربي والأندلسي على هذا الاختيار، وقد سارت على هذا الدول المتعاقبة على الحكم بالبلاد واحترمته بدقة، وانطلاقا من هذا نرى أن العلماء يقبلون جميعهم على البياض. وإذا ما تتبعنا أنماط الملابس التي قدمت إلى العلماء من الأمراء عند توليهم، أو التي خلفوها وراءهم؛ فإننا لا بد أن نجد البرنس الأبيض، ولهذا عددناه لباسا جامعيا من ميزات العلماء، ويخطئ من يدعي أن العلماء كانوا لا يعرفون التأنق في اللباس، أو بالأحرى كانوا لا يهتمون بمظهرهم الخارجي... ".
اعتاد علماء المغرب الأقصى وحتى طلبة العلم اتخاذ اللباس الأبيض المتكون من الكساء/ الحايك، وعلى البرنس أو السلهام وفق ما يشير إليه صاحب اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سيء الأخبار الفقيه محمد بن قاسم الأنصاري السبتي. واستمر اللباس الأبيض قائما في توشيح النجباء فيما كان يشتهر ب «سلطان الطلبة" في فاس ومراكش. مع الحماية، لم تعد للفضاء جاذبيته وسحره، أشاعت دوائر الحماية الفرنسية عنه لقب "البيت المظلم"، وألغت الاحتفال بسلطان الطلبة، واحتقرت علماءه وطلبته...وبذلك تكون الحماية قد أعلنت عن موقفها من جامع القرويين، ويكون القرويين قد انبرى لتكوين خريجين سيشكلون طليعة الحركة الوطنية المناهضة للوجود الاستعماري في المغرب.