ما يجري داخل سجون البوليساريو بتندوف ليس سوى أعمال حقيرة بإنفاق جزائري باهظ. هذه هي الصورة الغامقة لما يقع هناك. جلادون عسكريون ماتت إنسانيتهم وشبعت موتا، لا يتورعون عن فعل أي شيء يسكت عويل أحقادهم وأمراضهم. لا يطربهم إلا نحيب المحتجزين وصراخهم في الأقبية المظلمة، ولا يشفي غليلهم سوى الدم المسفوك خلف جدران الزنازن. إذ تُشير تقارير وشهادات متعددة إلى أن ما يقع داخل هذه السجون قد يصل إلى الإعدام خارج نطاق القانون!
ففي مارس 2024، استنكرت منظمتان غير حكوميتين، هما "الشبكة الإفريقية للتنمية والحكامة لحقوق الإنسان"، ومنظمة «إل سيناكولو»، هذه الانتهاكات أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وأشارت المنظمتان إلى تعرض المحتجزين في مخيمات تندوف لعمليات إعدام خارج نطاق القضاء، واختفاءات قسرية، واغتصاب وسخرة وعبودية وتنكيل بطرق وحشية. كما نددتا بصمت المجتمع الدولي تجاه هذه الفظائع المرتكبة دون عقاب. ومن ذلك إقدام العسكر الجزائري على إعدام 3 شبان من «مخيم الداخلة» كانوا في رحلة للتنقيب عن الذهب في الصحراء بتهمة محاولة الفرار إلى المغرب، وهو ما أكده مرصد الصحراء للسلم وحقوق الإنسان في بيان ندد بحالات القتل خارج نطاق القانون التي يتعرض لها سكان المخيمات، داخل السجون وخارجها.
الصورة القاتمة
الصورة القاتمة نفسها نقلتها صحيفة «إل سييتي» الشيلية في يونيو ، 2023 حيث نشرت شهادات لضحايا تعرضوا للتعذيب في سجون البوليساريو، وكان من بين هؤلاء، سعداني ماء العينين «ابنة الراحل الوالي الشيخ سلامة» التي تحدثت عن تفاصيل التعذيب الذي تعرضت له هي ووالدها، وترحيلها القسري إلى كوبا. كما تحدث الداهي أكاي «أحد مؤسسي جبهة البوليساريو ورئيس مفقودي البوليساريو» عن آثار التعذيب الوحشي على جسده، فضلا عن تورط 30 من قيَّاديِّي البوليساريو في جرائم الإبادة والاختفاء القسري والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فيما كشف أحمد خر، «أحد مؤسسي البوليساريو ورئيس الائتلاف الصحراوي للدفاع عن ضحايا سجن الرشيد بتندوف»، الوجه الوحشي البشع لجلادي البوليساريو الذي احتجزوه 14 عامًا في السجن، منها 10 سنوات في عزلة تامة، تعرض خلالها لأشكال متعددة ومتنوعة من التعذيب.
هذا الوضع اللاإنساني والمأساوي يطرح بقوة هذا السؤال: لماذا لا توجد أي رقابة دولية على سجون البوليساريو؟! وما هو دور المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية «المفوضية السامية لحقوق الإنسان، مجلس حقوق الإنسان، منظمة العفو الدولية، المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، «هيومن رايتس ووتش».. إلخ»؟ ما هو موقفها من إصرار السلطات الجزائرية على منع وصول المفتشين، على نحو كامل، إلى السجون والمعتقلات في تندوف، علما أن المادة 16 من اتفاقية مناهضة التعذيب تنص على ما يلي: «تتعهد كل دولة طرف بأن تمنع، في أي إقليم يخضع لولايتها القضائية حدوث أي أعمال أخرى من أعمال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي لا تصل إلى حد التعذيب»؟ ما هي أدوار كل هذه الجمعيات من أجل القضاء على تلك «الحجرات المظلمة» التي يحرسها العسكر الجزائري في مخيمات تندوف؟ ما دور المنتظم الدولي في تقويم ممارسات البوليساريو التي تتعارض مع التزامات الجزائر الدولية؟
في الأسبوع الماضي من فبراير 2025، وفي لقاء احتضنه المقر المركزي لحزب الاتحاد الاشتراكي بشارع العرعار، طالب «الائتلاف الصحراوي للدفاع عن ضحايا سجن الرشيد بتندوف»، يوم الجمعة 14 فبراير 2024، المجتمع الدولي وكافة الهيئات الحقوقية، بالضغط على الجزائر والبوليساريو لوضع حد لهذه الانتهاكات، وإطلاق سراح كل المختطفين، وكشف مصير المفقودين. كما طالب مجلس حقوق الانسان بإرسال بعثة حقوقية للنبش في المقابر الجماعية المتناثرة قرب تلك المعسكرات السجنية السرية ومحاسبة المسؤولين «الجزائريين والانفصاليين» عن هذه الجرائم.
قيادة دموية
ووفقًا لصحيفة «لاراثون» الإسبانية، فإن ضحايا الانتهاكات يتهمون قيادة البوليساريو بارتكاب جرائم تشمل الإبادة الجماعية، والقتل، والاحتجاز غير القانوني، والتعذيب، والاختفاء القسري. ومن بين أكبر المتهمين زعيم الانفصاليين إبراهيم غالي شغل سابقا عدة مناصب، منها مسؤول شؤون الأمن والدفاع، وعضو في اللجنة التنفيذية، وسفير في إسبانيا والجزائر، فضلا عن بشير مصطفى السيد الذي شغل منصب وزير الدفاع الوطني.، ثم محمد سالم ولد السالك «وزير الشؤون الخارجية»، وحمدي ولد الرشيد «وزير الداخلية». كل هؤلاء مسؤولون عن الانتهاكات التي كان «بطلها» بدون منازع سيد أحمد البلال المتوفى في ماي 2021، والذي كان يشغل منصب مدير الأمن العسكري خلال ثمانينيات القرن الماضي. إذ رغم فقدانه البصر بسبب إصابته في معركة «المسيد» سنة 1983 «اندحرت فيها قوات البوليساريو أمام القوات المسلحة الملكية»، استمر الانفصاليون في تمتيعه بمناصب قيادية، منها وزير الاتصال ووزير التجهيز. وقد كان موضوع عدة شكاوى قضائية رفقة قياديين بارزين، إذ قررت محكمة إسبانية في عام 2009، فتح مسطرة قضائية ضد 27 من مسؤولي جبهة البوليساريو، بتهم ارتكاب أعمال إبادة وتعذيب. وقد جاء هذا القرار استجابةً لشكاية قدمتها الجمعية الصحراوية للدفاع عن حقوق الإنسان في دجنبر 2007.
ويُتهم البلال بالإشراف المباشر على عمليات التعذيب في سجون البوليساريو، خاصة في سجن الرشيد سيئ السمعة. فيما تشير تقارير متعددة إلى أن انتهاكات البوليساريو تُرتكب بشكل رئيسي، وعن عمد وسبق إصرار، بدعم مكشوف من السلطات الجزائرية التي تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية وسياسية عن هذه الانتهاكات، نظرًا لتفويضها الفعلي لسلطاتها إلى مجرمي البوليساريو، مما يشكل انتهاكًا للاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية اللاجئين.
إن هذه الجرائم التي تقع تحت أعين وبمباركة وتواطؤ السلطات الجزائرية يدعو المنتظم الدولي إلى إرغام الجزائر على تحمل كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية في هذا الملف، كما تدعو دولا مجاورة إلى التحرك لفضح الأعمال الوحشية التي يتعرض لها مواطنوها المحتجزون في سجون العار.
هناك محتجزون من جنسيات مختلفة. ففضلا عن السجناء المغاربة الذين تم اختطافهم واقتيادهم إلى تندوف، هناك المعارضون السياسيون داخل المخيمات الذين يعتبرون أن قيادة البوليساريو لا تمثلهم، وهناك الأفارقة الذين ينحدرون من دول الساحل أو موريتانيا، وهناك الذين اكتشفوا الوجه البشع للبوليساريو وراعيتها الجزائر، وحين أعلنوا موقفهم تعرضوا للاعتقال. وهناك اللاجئون الذين يتم احتجازهم والمتاجرة فيهم، أو تجنيدهم في بعض الأعمال القذرة «الجماعات المسلحة، التهريب، المتاجرة في المخدرات». كل هؤلاء يشتركون في جحيم الاحتجاز، وأيضا في الطوق السميك الذي تضربه عليهم الجزائر بعيدا عن الرقابة الدولية، إلى الحد الذي يصعب تحديد العدد الدقيق للسجناء بشكل موثوق. إذ تقدر بعض المنظمات غير الحكومية والمصادر الصحفية أن هناك مئات من السجناء إلا أن عددهم يمكن أن يتفاوت بشكل كبير بين الارتفاع والانخفاض، بناء على تطور الأوضاع السياسية في المنطقة، وأيضا بالنظر إلى الصراعات الداخلية بين مختلف التيارات والأجيال داخل البوليساريو.
مداخل الحل
إن المدخل الأساس لحل هذا الملف هو مواجهة الجزائر انطلاقا من عدة مداخل. ومن المداخل الرئيسة التي يمكن اعتمادها حاليا:
أولا: تقوية التعاون مع المنظمات الدولية من أجل الضغط على السلطات الجزائرية لتمكين هذه المنظمات من القيام بأدوارها في المراقبة والتوثيق دخل سجون البوليساريو. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه «الرقابة الدولية المستقلة».
ثانيا: ملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة قضائيا، للحد من
التعذيب والاحتجاز التعسفي في المخيمات، وذلك أمام المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الوطنية.
التعذيب والاحتجاز التعسفي في المخيمات، وذلك أمام المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الوطنية.
ثالثا: تشجيع الضحايا والمنظمات الحقوقية الوطنية «الدول التي ينحدر منها المحتجزون» على التقدم بشكاوى ضد الجلادين من زعماء البوليساريو.
رابعا: التعزيز الإعلامي لدور المنظمات الإنسانية التي تشتغل في تندوف، وذلك بمواكبة عملها داخل سجون المخيمات، وتقديمها بوصفها آليوة محايدة ومستقلة تهدف بالدرجة الأولى إلى تحسين ظروف الاحتجاز بسجون تندوف.
خامسا: تمكين الإعلام الدولي الحر والنزيه من الوصول إلى المعتقلات السرية بتندوف لينقل بشكل شفاف كل ما يحدث في الزنازن، بعيدًا عن التلاعب السياسي أو العسكري.
خامسا: تمكين الإعلام الدولي الحر والنزيه من الوصول إلى المعتقلات السرية بتندوف لينقل بشكل شفاف كل ما يحدث في الزنازن، بعيدًا عن التلاعب السياسي أو العسكري.
سادسا: إطلاق حملة دولية عامة لدعم ضحايا البوليساريو وتعبئة وسائل الإعلام للضغط على الحكومات والمنظمات الدولية لفتح ملف حقوق الإنسان في الجزائر وتندوف، فضلا عن دعم حقوق الإنسان داخل المخيمات.
سابعا: نشر تقارير دورية حول معاملة السجناء وظروف الاحتجاز بمخيمات تندوف لمنع التعذيب، وترسيخ ثقافة أنسنة الاعتقال.
ومهما يكن، فإن هذا الوجه القاتم للسجون البوليساريو لا ينبغي أن ينسينا أن المسؤولية القانونية والسياسية الأكبر ينبغي إلقاؤها دون تردد على الدولة الحاضنة، لأنها لم تعمل فقط على توفير الآليات القانونية والإنسانية الكفيلة بإيقاف التعذيب والاحتجاز التعسفي والانتهاكات بحق السجناء في تندوف، بل أنفقت أموالا طائلة من أجل بناء محضنة عسكرية آمنة لكسر كرامة المعتقلين والمعارضين والأحرار..
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الان"