اليوم كان مقررا أن أذهب إلى حي Skadarlija بمدينة بلغراد، الذائع الصيت، لكونه من الأحياء البوهيمية الأكثر شهرة بعاصمة صربيا، لدرجة أن الأوساط الفنية والأدبية تطلق على هذا الحي لقب " Montmartre Belgardois"، نسبة إلى حي "مونمارت" بباريس. شهرة الحي لا ترتبط فقط بارتياده من طرف الرسامين والفنانين والأدباء والمغنين، بل تعود أيضا لكثرة مقاهيه ومطاعمه التي تتنافس على تقديم الوجبات المحلية على إيقاع أنغام موسيقى البلقان.
لكن حرص أعوان بلدية بلغراد على تتبيث الأعلام الوطنية الصربية ببعض الأزقة والشوارع والساحات المشهورة التي تحمل أسماء يقدسها الصربيون ويضعونها في خانة "الأولياء" تكريما للأدوار التي قاموا بها لتحرير الصرب من ما يسمونه، "بطش المسلمين الأتراك" ، جعلني أنتبه إلى أن يوم السبت 15 فبراير 2025، هو يوم عطلة مؤدى عنها في كامل تراب صربيا.
ففي يوم 15 فبراير من كل عام تتعطل الإدارات والمرافق الكبرى بصربيا، استحضارا لجرح غائر لم يندمل بعد في ذاكرة الصربيين، ألا وهو "الجرح الإسلامي" أو "الجرح العثماني" أو "الجرح التركي"، حسب اللفظ الذي تستعمله الطبقة السياسية والإعلامية والجامعية بصربيا على اختلاف ميولات نخبها وتباين نحلها ومللها ومذاهبها. فيوم 15 فبراير يؤرخ لثورة الصرب الأولى ضد الاحتلال التركي الذي دام حوالي أربعة قرون ونصف القرن.
لنعد إلى الوراء قليلا :
بتاريخ 15 يونيو 1389، انهزم الصرب شر هزيمة أمام الجيش العثماني بمعركة كوسوفو، وهي الهزيمة التي ستسمح للأتراك بتمطيط نفوذهم واحتلالهم لكامل منطقة البلقان طوال خمسة قرون تقريبا.
بعد أن ضاق الصرب بالاحتلال التركي وببطش الباشوات والجنود العثمانيين، قاموا في سنة 1801باغتيال باشا بلغراد، مما جعل الأتراك يردون على العملية باعتقال وإعدام معظم نبلاء صربيا في جزيرة ADA Khaleh الواقعة وسط نهر الدانوب الذي يخترق بلغراد. فاشتد الغليان، وأثمر بين 14 فبراير 1804 و7 أكتوبر 1813، أكبر وأطول حركة تمردية للصرب ضد العثمانيين، إلا أن الأتراك تمكنوا من سحق هذه الثورة الأولى.
التمرد الصربي الذي انطلق عام 1804، قاده أحد مربي الخنازير، اسمه Georges Pétrovitch الملقب من طرف العثمانيين باسم Kara georges ( أي جورج الأسود)، وتم التمرد بدعم من النمسا وروسيا، القوتان الصاعدتان آنذاك، تزامنا مع بداية خفوت الأمبراطورية العثمانية، علما أن النمسا وروسيا دعمتا التمرد لكون الصربيين انخرطوا بالآلاف ضمن جيوشهما كمتطوعين في الحرب التي جمعت روسيا والنمسا من جهة وتركيا من جهة ثانية بين 1788 و1791.
لكن حرص أعوان بلدية بلغراد على تتبيث الأعلام الوطنية الصربية ببعض الأزقة والشوارع والساحات المشهورة التي تحمل أسماء يقدسها الصربيون ويضعونها في خانة "الأولياء" تكريما للأدوار التي قاموا بها لتحرير الصرب من ما يسمونه، "بطش المسلمين الأتراك" ، جعلني أنتبه إلى أن يوم السبت 15 فبراير 2025، هو يوم عطلة مؤدى عنها في كامل تراب صربيا.
ففي يوم 15 فبراير من كل عام تتعطل الإدارات والمرافق الكبرى بصربيا، استحضارا لجرح غائر لم يندمل بعد في ذاكرة الصربيين، ألا وهو "الجرح الإسلامي" أو "الجرح العثماني" أو "الجرح التركي"، حسب اللفظ الذي تستعمله الطبقة السياسية والإعلامية والجامعية بصربيا على اختلاف ميولات نخبها وتباين نحلها ومللها ومذاهبها. فيوم 15 فبراير يؤرخ لثورة الصرب الأولى ضد الاحتلال التركي الذي دام حوالي أربعة قرون ونصف القرن.
لنعد إلى الوراء قليلا :
بتاريخ 15 يونيو 1389، انهزم الصرب شر هزيمة أمام الجيش العثماني بمعركة كوسوفو، وهي الهزيمة التي ستسمح للأتراك بتمطيط نفوذهم واحتلالهم لكامل منطقة البلقان طوال خمسة قرون تقريبا.
بعد أن ضاق الصرب بالاحتلال التركي وببطش الباشوات والجنود العثمانيين، قاموا في سنة 1801باغتيال باشا بلغراد، مما جعل الأتراك يردون على العملية باعتقال وإعدام معظم نبلاء صربيا في جزيرة ADA Khaleh الواقعة وسط نهر الدانوب الذي يخترق بلغراد. فاشتد الغليان، وأثمر بين 14 فبراير 1804 و7 أكتوبر 1813، أكبر وأطول حركة تمردية للصرب ضد العثمانيين، إلا أن الأتراك تمكنوا من سحق هذه الثورة الأولى.
التمرد الصربي الذي انطلق عام 1804، قاده أحد مربي الخنازير، اسمه Georges Pétrovitch الملقب من طرف العثمانيين باسم Kara georges ( أي جورج الأسود)، وتم التمرد بدعم من النمسا وروسيا، القوتان الصاعدتان آنذاك، تزامنا مع بداية خفوت الأمبراطورية العثمانية، علما أن النمسا وروسيا دعمتا التمرد لكون الصربيين انخرطوا بالآلاف ضمن جيوشهما كمتطوعين في الحرب التي جمعت روسيا والنمسا من جهة وتركيا من جهة ثانية بين 1788 و1791.
وبعد هروب Georges Petrovitch، قام الصرب باختياره قائدا أسمى لمواجهة العثمانيين.
ورغم الدعم النمساوي والروسي لصربيا، تمكن العثمانيون من الحفاظ على قبضتهم على صربيا وعلى باقي دول البلقان، بفضل انقلاب نابوليون الأول على روسيا وتخلي فرنسا عن دعمها للقيصر، مما قاد إلى إبرام اتفاق بوخاريست( رومانيا) يوم 16 ماي 1812، يقضي بسماح الأتراك للصرب ببعض الاختصاصات الذاتية وإدارتهم للشأن المحلي بأنفسهم.
لكن العثمانيين نفضوا اليد عن هذا الاتفاق عام 1813، وأعادوا صربيا إلى ما قبل سنة 1804، بل وقاد العثمانيون حملة واسعة لسحق ما تبقى من المتمردين الصرب.
هذه الانتقامات جعلت الصرب يختارون Miloch Obrénovitch لقيادة صربيا وتم تنصيبه في نونبر 1817 أميرا على البلاد، وإعلانهم الثورة الثانية ضد العثمانيين.
وبسبب تأويلات بنود "اتفاق بوخاريست"، جددت روسيا تدخلها في البلقان، بدعوى أنها الدولة الحامية للصرب، وضغطت على العثمانيين لاحترام تعهداتهم بخصوص أحقية الصرب في الاستقلال.
ونظرا لتسلل الوهن "للرجل المريض" ( أي ضمور قوة الأمبراطورية العثمانية)، اضطر السلطان العثماني الى الاعتراف باستقلال صربيا يوم 12 دجنبر 1830. وفي نفس السنة سيعترف العثمانيون باستقلال اليونان كذلك، ليتوالى تفكك أمبراطورية الأتراك.
بعد الحرب العالمية الأولى، وبسبب انهيار الأمبراطوريتين: العثمانية والنمساوية، استغلت صربيا الوضع الجيوسياسي الدولي الجديد، وقامت بضم كافة صرب منطقة البلقان تحت إبطها، وهو التوحيد الذي جسدته ولادة "مملكة الصرب والكروات والسلوفان"، عام 1918، والتي ستحمل عام 1928، اسم "مملكة يوغوسلافيا" ( أي باللغة الصربية والكرواتية: أرض شعب السلاف بالجنوب)، كرسالة لتوحيد كل السلافيين بالمنطقة. وهي المملكة التي سيردمها "الماريشال تيتو" في العهد الشيوعي ويعلن عن ميلاد "الجمهورية الفدرالية الشعبية ليوغوسلافيا".
بعد انهيار جدار برلين عام 1989، وعلى هامش مرور 600 سنة على احتلال تركيا لصربيا، برز اسم "سلوبودان ميلوزوفيتش" أحد أشهر الصرب الدمويين، الذي نفخ في الجمر بإذكاء خطاب قومي عنصري ومتطرف، مبني على مقولة أن "الله خلق الصرب لزعامة البلقان"، مما أدى إلى تفكك فيدرالية صربيا، بل وتقزم مساحتها إلى 80 ألف كيلومتر مربع، بسبب الاقتتال الدموي الذي عاشته منطقة البلقان في اواخر القرن العشرين.
ورغم صغر مساحة صربيا، فهي مساحة مثقلة بعشرات الآلاف من الجثث والقتلى، ومتخنة بالجراح والحروب والمجازر الفظيعة التي ارتكبها المتطرف "ميلوزوفيتش" اتجاه المسلمين واتجاه كل طائفة أو سلالة لا تحمل جينات "صربيا العظمى" !

عبد الرحيم أريري بأحد مقاهي زنقة Mihailova، أشهر زنقة في بلغراد