في ظل التدافع المهول للأسباب والدوافع التي تمثل وراء تكريس الضغوط النفسية والاجتماعية، التي تستهدف الإنسان، أصبح التفكير أو الإقدام على الانتحار أفضل وجهة يقصدها من ضاقت به الأرض بما رحبت، والطريقة المثلى للتعبير عن الذات.
هي حالات سئمت من تكرار المحاولات الفاشلة لإثبات وجودها في عالم الأحياء، فآثرت عالم بديلا غير هذا، هو عالم الأموات لعل الأمر يجدي نفعا.
هناك من الناس من وجد الانتحار السبيل القويم للهروب من مجتمع ربما يحمله ذنب أخطاء هو لم يرتكبها.
تدل تصريحات عدة لأخصائيين، كما تؤشر الكثير من الإحصائيات والمعطيات، على أن ظاهرة الانتحار بالمغرب تعتبر من الإشكاليات التي تؤرق المجتمع المغربي، والتي لا تكف عن التزايد في صفوف مختلف الفئات العمرية، لأسباب وإن اختلفت في طبيعتها فإنها تتوحد حتما في جسامة الثقل الذي تحدثه على الفرد، ليكون بذالك العدد المرتفع الذي سجله المغرب بخصوص هذه الظاهرة المدعاة الأساسية من وراء الحديث عنها كسؤال مؤرق .
.... الانتحار في المغرب تعبير عن عطب نفسي كبير
مجمل التصريحات التي توصلنا إليها في هذا الموضوع، من قبل مختلف الفئات العمرية، يشد فيها البعض بأزر وعضد البعض الآخر، ليقع الإجماع النسبي الذي يفيد أنها أسباب ترجع بالأساس إلى الافتقار للعدة المعنوية المتماسكة، والكفيلة بجعل الإنسان يحسن التأقلم مع مختلف المشاكل التي تتهدده في الحياة.
سألنا مجموعة من الشباب، عن الأسباب التي تدفع الفرد إلى الإقدام على هذا السلوك الذي أسماه البعض منهم "بالغير الواعي"، فكانت إجابة أحدهم على النهج الآتي"لا يجب أن نلقي اللوم دائما على المنتحر كونه يقدم على فعل جنوني، وننسى أن هناك من يلجأ لهذا السلوك إكراها وليس اختيارا، من قبيل البعض الذين يعانون من الأمراض العقلية والاضطرابات النفسية، التي لا تنشأ من فراغ إنما قد تكون نتيجة التعرض في الصغر لصدمات أخفق الزمن في محوها، كالتعرض للاغتصاب مثلا، بغض النظر عن الاضطرابات التي تكون وراثية، كالفصام أو الوسواس القهري الذي يتربع مقدمة الأسباب الرئيسية وراء انتحار المراهقين على وجه الخصوص".
في نفس الإطار دائما وبمعية ذات المجموعة من الشباب، تدخلت شابة عشرينية، باندفاعية كبيرة، ودون سابق إنذار يؤشر على رغبتها في تضمين رأيها، لتسلط بذلك الضوء على أهم عامل يؤجج الإشكالية بقولها، "قد تؤدي الصراعات الأسرية المتكررة، وبالأخص بين الوالدين، وأيضا عيش الطفل المراهق مع زوجة أب قاسية أو زوج أم قاس، وتعرضه للضرب والإيذاء والحرمان العاطفي، إلى وقوعه في الإكتئاب ومن ثم التفكير في وضع حد لحياته".
إن تعرض المراهق للنقد المستمر من قبل أقرب الناس إليه تضيف ، والاستهزاء به وعدم احترام مشاعره، مثل التنقيص من قدراته ومؤهلاته، يؤدي حتما إلى دفع هذا الطفل إلى تبني ثقافة التفكير في الانتحار، كشكل من أشكال التعبير عن رفضه الدفين لتصرفات لا يملك من الشجاعة القدر الكافي ليجهر بموقفه، بدافع الخوف طبعا من الكثير من الأخطار التي قد تهدده".
وأردفت نفس المتدخلة بقولها" إن الفقر أيضا يساهم وبحدة في تفاقم هذه الظاهرة، وليس الحديث يجري هنا عن الفقر المتوارث، إنما ذاك الذي يجنيه الشاب العاطل بعد تحصيل علمي استمر لسنوات تشهد عليه الشواهد التي حصل عليها، والتي ما أغنته في شيء سوى أن ألحقته بلائحة المعطلين".
منظمة الصحة العالمية كانت قد دقت ناقوس الخطرعن قلقها إلى أن تؤدي الأزمة الاقتصادية العالمية إلى ارتفاع حالات الانتحار، خاصة بعد تفشي الظاهرة في الآونة الأخيرة في صفوف المعطلين، و ألائك الذين فقدوا مناصب عملهم لأسباب اقتصادية.
في صلة بالموضوع ارتأينا أن نسأل امرأة ستينية نفس السؤال، حتى تكتمل الصورة بوضوح أكثر فأضافت من جهتها، بالقول" إن ضعف الوازع الديني هو السبب الرئيسي وراء "كاع هاد المصائب"، على حد تعبيرها، ذالك لأن البعد عن الدين القويم وضعف الإيمان بالله واليوم الآخر وغياب الرضي بالقضاء والقدر، خيره وشره، وما ينجم عقب ذالك من قلة التوكل على الله وسوء الظن به سبحانه، والخوف من المستقبل، كلها أسباب كفيلة بدفع الفرد إلى تبني هذه الأفكار المدمرة، بل وإنها أسباب نافذة المفعول في ذالك وتستغني عن الأسباب الثانوية التي وإن ساهمت في الرفع من حدة الإشكالية تظل مجرد أسباب مساعدة تحل محل النوافل.
كما أضاف أستاذ بكلية الرباط، أن الأسباب متعددة ومن الصعب التفكير في التطرق لها كاملة جملة وتفصيلا، ليكتفي بتسليط الضوء على تلك التي يراها ترشح لانتشار الظاهرة بحدة قصوى مقارنة بنظيراتها، إذ قال" إن من بينها الفشل بمختلف أشكاله، كالفشل المادي المتمثل في عدم القدرة على سداد الديون، والتعرض للخسائر، إضافة للفشل الدراسي كما يتضح الأمر كلما اقتربت امتحانات الباكالوريا، أو عقب الإعلان عن النتائج ندرك حينها أننا سنكون على موعد غير مخلوف، مع الكثير من الضحايا من الشباب اليافعين الذين يأبون قبول الرسوب. ثم الفشل العاطفي و الاجتماعي، و كذا المهني المتمثل في عدم القدرة على تأمين وظيفة كريمة والاجتهاد في ضمان الحفاظ عليها".
كما أظهرت الكثير من الدراسات الدولية أن السبب الرئيسي للانتحار، هو الفشل بنسبة قدرت ب 69 في المائة.
أضاف نفس المتحدث أن توفر النماذج وإساءة بعض وسائل الإعلام في التعامل مع هذه القضية، التي أصبحت مثارا للقلق والكثير من المطارحات الفكرية على حد تعبيره، تعتبر من الأسباب التي تؤجج الظاهرة قيد الدراسة، من قبل طرح قصص واقعية لشخصيات اختارت أن تخلد تاريخها بالانتحار، مما يشجع الكثيرين ممن يعانون المشاكل الاجتماعية والنفسية للإقدام على هذه الظاهرة.
أرقام صادمة
أشارت دراسات سابقة في علاقة بالموضوع، أعلن عن نتائجها مجموعة من الأخصائيين، أن الانتحار هو السبب الثالث لموت الأطفال للفئة العمرية المتراوحة بين 15 و19 سنة. والسبب الرابع بالنسبة للفئة العمرية التي تتراوح ما بين 10 و14 سنة. وأفرزت الدراسة أن نسبة انتحار الذكور من الأطفال والمراهقين تصل إلى خمسة أضعاف انتحار الإناث من العمر ذاته، كما تدل الإحصائيات العالمية على أن حوالي 1 إلى 2 من كل مائة ألف طفل ينتحر ون في سن تتراوح بين 15 و19 سنة.
ارتباطا بالموضوع فقد سبق لأخصائيين مغاربة أن حذروا من غياب الأطباء النفسيين المتخصصين في علاج الأطفال بالمغرب، في ظل معلومات تفيد أن طفلا يبلغ من العمر 8 سنوات، يبدأ بالتفكير في الانتحار، وأيضا في ظل غياب الرعاية النفسية في المدرسة والمجتمع، الأمر الذي يترجم عدم حسم هذا الأخير في تبني ثقافة تعنى بالشأن النفسي.
تشير الدراسة نفسها إلى أن المراهقين هم الأكثر إقداما على الانتحار وأيضا في مرحلة الطفولة، ويعزى ذالك في أغلب الحالات إلى التفكك الأسري، والفشل في الدراسة، والفصام العقلي والاكتئاب والكثير من الأمراض، وتبين الكثير من التقارير الدولية أن الانتحار يمثل ثلث الأسباب المؤدية إلى وفاة المراهقين، ويتزايد بشكل كبير في مرحلتي المراهقة والطفولة.
في نفس الصدد، ذكرت الكثير من الأبحاث الأكاديمية أن أكثر من مليونين و900 ألف مغربي لا يخفون رغبتهم في وضع حد لحياتهم، نتيجة للفقر والبطالة وانسداد الآفاق بعد طول عمر من التحصيل الجامعي والأكاديمي.
مريم بوزدي رئيسة جمعية رضي، تقول " مهمتنا في هذه الجمعية هي التدخل عبر عدة وسائل، للوقاية من خطر العزلة الذي قد يؤدي بمراهق طفل إلى الانتحار".
وتضيف" الانتحار يعتبر السبب الثاني للموت لدى فئة 15 إلى حدود 25 سنة. وأمام هذا المعطى يتبين أن الانتحار أصبح أمرا لا يجب السكوت عنه، ويمكن الوقاية منه، لهذا فالجمعية تتوفر على فضائات للاستماع تضمن كامل السرية".
كما أورد تقرير أعده معهد الأرض من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة في قياس السعادة، أن المغرب يحتل مرتبة متدنية باحتلاله الرتبة 99 من أصل 156 دولة.
يضيف علي الشعباني أخصائي علم النفس والاجتماع من جهته، " أن الدولة بدورها تتحمل المسؤولية، من خلال النظام التعليمي الذي لم يرسو على أي برنامج منذ الاستقلال. وكذا النظام الاقتصادي يجثو بثقله هو الآخر".
عبد الرحيم لجرموني الأخصائي في علم الاجتماع الديني يوضح من جهته"ظاهرة الانتحار خطيرة ومعقدة، قد تكون وسيلة للاحتجاج عل المجتمع، وعلى فشل الخطاب السياسي والاقتصادي وغيرهما". ومن ثم فإشكالية الانتحار نشأت عقب تداخل العديد من الأسباب العميقة، خصوصا في ظل غياب التنشئة الاجتماعية السليمة.
الانتحار بين علم الاجتماع وعلم النفس
من خلال الإطلاع على مجموعة من الدراسات التي قدمها أخصائيون في كلي المجالين، تبين أن هناك العديد من الفرو قات بين كليهما، ذالك لأن علم النفس يضع الظاهرة في سياقها الفردي، على خلاف علم الاجتماع، ويتناولها من زاوية موقف الفرد من الحياة وكيف يتصورها، ولا يهمل أنها تعتبر من أعقد الظواهر وأكثرها تركيبا، بفعل تداخل الكثير من العوامل الشخصية والدينامكية المتعددة.
الدين والانتحار
أجمع علماء دين مغاربة كثر، على أن الانتحار حرام بكل صوره وأشكاله، وليس دواء يوصف للمعضلات، بل داء يسبب الانتكاسة والحرمان من الجنة، ليظل الانتحار بذالك منهيا نهي تحريم لما فيه من إزهاق للروح بغير وجه الحق، ذالك لأن لكل مشكلة ما يناسبها من الحلول، ليظل بذالك هذا السلوك مجرد دليل على ضعف الدين و العزيمة، مع قلة التوكل على الله.
تتعدد الأسباب..... ليظل الانتحار واحد
كثيرة هي القصص الواقعية التي يخالها العديد من الأشخاص، أنها مجرد خيال .
نجد من ضمن القصص الدامية التي جسدت تجربة الانتحار، شخص ملتح بالدار البيضاء، أطلعنا بعض الناس الذين عايشوه عن قرب، أنه كان ينتمي لتيار السلفية الجهادية، انتحر بعد فشله في تنفيذه لمحاولة استهدف من خلالها اختطاف فتاة. لأسباب ظلت إلى حين الساعة الراهنة غامضة، وللإشارة فالمنتحر، عبد المولى كان يبلغ من العمر 28 سنة، وقد كان في حالة هستيرية حينما عمد إلى اختطاف الطفلة البالغة من العمر سنة ونصف، ليطلق سراحها بعد مدة زمنية قدرت ب30 يوما. لتتلق السلطات الأمنية بعد حين من تنفيذه العملية خبر انتحاره باستعمال أداة حادة.
اقتربنا من إحدى الأسر التي تعيش تحت ثقل الظاهرة ذاتها، إذ بصوت مكلوم يخفي الكثير من الأم قالت أم الضحية مريم،"ابنتي مريم حاولت الانتحار أكثر من مرة، آخر مرة حاولت رمي نفسها من الطابق الثاني، وبعون الله تمكنا من إنٌقاذها، "غير رضا الولدين لنجاها وصافي" تقول الأم، وبعدما سألنا هذه الأخيرة عما إذا كانت على علم بالأسباب التي تمثل وراء تولد هذه الرغبة في الانتحار لدى ابنتها مريم البالغة من العمر18 سنة، أجابت دون تردد، "إنها تعرضت وهي طفلة للاغتصاب من قبل أحد أبناء الجيران، الذي تزوج بها فيما بعد، مكرها من أجل تفادي قضاء العقوبة الحبسية، وسرعان ما بات يهددها بالقتل إن لم ترض بالطلاق وتتنازل عن جميع حقوقها.
هناك أيضا "عمر" البالغ من العمر 40 سنة، والمقيم بالديار الهولندية، هو أب لثلاث أطفال، ويشتغل بإحدى الشركات التي أفلست بسبب الأزمة الاقتصادية، لتكون النتيجة هي تلك التي لا تخفى على أحد، حيث تم تسريح الكثيرين من العمال ليحكم القدر على عمر أن يكون من هؤلاء، وكما أكد لنا مجموعة من الأصدقاء المقربين للشخص، فقد تم التأكيد أنه على إثر فقدانه لوظيفته، وقع طريح الفراش بعدما أصيب بشلل نصفي، وبات يقضي يومه على كرسي متحرك.
ستخرج الزوجة اضطرارا وليس اختيارا للبحث عن عمل، هو بحث كان حتما في البيوت كخادمة، مما ساهم وبحدة في تراجع الحالة النفسية لعمر الذي وجد نفسه عاجزا وغير قادر على تحريك ساكن أمام الوضع المأساوي الذي يتهدد حياته، إلا أن ما زاد الطين بلة وجعل الوضعية أكثر كارثية، هو فقدانه لمنزله الذي ذهب كفدية للديون البنكية التي تراكمت عليه. كانت هذه كلها أسباب وجد فيها عمر ما يكفي للتفكير في الانتحار الذي أقدم عليه بالفعل باستعمال مادة سامة.
ومن الحب فعلا ما قتل، من القصص المؤثرة فعلا، والتي تستدعي الكثير من التأمل هي قصة سكينة، الشابة التي تقطن بحي المهندس بمدينة تفلت، هي شابة تبلغ من العمر 20 سنة، أطلعنا أفراد من أسرتها على تفاصيل جد بليغة في الألم، هي فتاة اختارت بمحض إرادتها التخلي عن الدراسة لتلازم البيت.
شاءت الأقدار بعد حين أن تتعرف على شاب يكبرها بست سنوات، كان يشتغل كسائق سيارة أجرة، جمعت بينهما علاقة حب كبيرة في السر والخفاء طبعا ودون علم والديها على حد تعبير الأخت التي تكبرها سنا، "كانت ديما كتبغي غي السبة باش تخرج تشوفو" هذه كلمات تلفظت بها سناء الأخت الأكبر لسكينة، حسب تصريحات أخرى تبين أن الشاب واعدها بالزواج في عطلة الصيف المقبلة، غير أنه أخلفها الوعد، دون سابق إنذار، تقول الأخت "كنا كالسين واحد النهار وسمعنا الزغاريت فضارهم وعرفنا بلي ولد لحرام هو لتزوج". كانت الصدمة قوية على الشابة، لم تتحمل فقررت أن تضع حينئذ لحياتها حدا، وألقت بنفسها من الطابق الثاني، ولكن العملية لم تكلل بالنجاح كما أرادت لها، كونها لم تفارق الحياة ولكنها فقدت القدرة على الحراك بعدما أصيبت في عمودها الفقر بكسور بليغة لتظل رفيقة الكرسي المتحرك جراء إصابتها بشلل نصفي. إضافة إلى كونها لازالت تعاني إلى حد الساعة من تبعات صدمة نفسية حادة، وانهيار عصبي، أفقدها القدرة على التأقلم بالشكل الطبيعي مع الحياة.