الأربعاء 23 أكتوبر 2024
فن وثقافة

لمحات من سيرة القائد عيسى بن عمر بنغمات أوتار وريشة الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني

لمحات من سيرة القائد عيسى بن عمر بنغمات أوتار وريشة الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني حسن الزرهوني (يمينا) رفقة الزميل أحمد فردوس

من المعلوم أن الفن التشكيلي بتعدد مدارسه وخصوصا المدرسة الواقعية، قد لعب دورا مهما في توثيق فترات مهمة من تاريخ المغرب وحضارة شعبه، وخصوصا على مستوى شجاعة الفرسان على صهوات الخيول الجامحة الأصيلة ـ العربية، والعربية البربرية، والتي أرختها ملاحم وبطولات التصدي للغزاة، أو في جانب إشراقات إنسانية دونها المثقفون والفنانون والمبدعون، سواء بالوتر والنغم والكلمة الموزونة، أو بالريشة والألوان الزاهية إلى جانب القلم السيَّال طبعا.

في هذا السياق واكبت جريدة "أنفاس بريس" ما يقوم به الفنان التشكيلي والموسيقي المبدع حسن الزرهوني حاليا من خلال إعادة رسم وتشكيل أحداث تاريخية عبر إنتاج لوحاته الفنية الساحرة التي يعكف على كتابتها بالفرشات والريشة، وترجمتها بأنغام الوتر العبدي داخل محرابه الفني، والتي يرافقها بتحليلات ومعطيات ذات أهمية بالغة يمزج فيها بين فن العيطة المغربية الأصيلة، وبين شجاعة كتائب الخيالة والفرسان، إلى جانب كشفه عن تمكنه من ثقافة البحر وكنوزه بمنطقة الكاب ـ البدوزة ـ حيث يسرد قصصا وروايات شفهية أو مقتبسة من أوراق ومراجع التاريخ، والتي ستفيد لا محالة في كتابة تاريخ منطقة عبدة وما إليها.

إليكم لوحة الخيال والفرسان الثلاث:

من بين اللوحات الفنية الجميلة التي اشتغل عليها الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني داخل محاربه الفني بمنطقة ساحل الكاب/البدّوزة، تلك التي تحيل في مضمون قراءتها على فترة تاريخية معينة، ـ تحديدا في القرن التاسع عشر ـ وهي اللوحة التي تؤرخ لموكب الصّيدة الذي كان يجهزه ويقوم به القائد الكبير عيسى بن عمر العبدي، كلما سنحت الفرصة بغابة لَمْعَاشَاتْ، أو في غابات دكالة بأزمور التي كان يتبادل مواكب الصيدة بينه وبين قياد دكالة.

القائد عيسى بن عمر يتوسط سويلم قائد الرحى والبشير قائد سربة الخمسين:

اللوحة ـ حسب حسن الزرهوني ـ تضم ثلاث شخصيات يمتطون صهوة الخيل، حيث يتوسط القائد عيسى بن عمر العبدي كل من الخيال/ الفارس المسمّى قيد حياته بـ "السّْوِيلْمِي"، وهو طبعا شخصية كان لها وزنها ضمن إيالة القائد، على اعتبار أنه كان يتحمل مسؤولية قَايْدْ الرّْحَى، حيث أتى ذكر اسمه في عيطة "هَنِّينِي هَنِّينِي" أو "حَاجْتِي فِي ﮜْرِينِي" في قول الناظم:

"طَاحْ سْوِيلَمْ طَاحْ حْتَّى مَنْ عَوْدُو ادُوهْ وَدَّاوْهْ سْيَادُوا"

الأمر يتعلق حسب تفكيك وتحليل مضمون الشذرة الشعرية، من طرف الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني ـ بإحدى المواجهات العنيفة مع المتمردين من القبائل الثائرة بالمنقطة، حيث فرّ قَايْدْ الرْحَى "سْوِيلَمْ" من قضبتهم، إلا أن جواده استولى عليه "سْيَادُوا" في إشارة إلى ثوار القبائل الثائرة التي فرّ من قبضتها والتي تتشكل من "الدّْرَارَاتْ" و "الْبَحَّارَةْ" و "دَارْ وَلْدْ الْعِيَّاشِي" حاليا التي كان يقام فيها سُوق ﮜْوِدِيرْ بالقرب من منطقة مُولْ الْبَرْﮜِي قبل أن يتم تحويل السُّوق إلى ناحية خْمِيسْ دَارْ الْقَايْدْ عِيسَى بَنْ عُمَرْ. أما بخصوص الشخصية الثالثة فهو الْبَشِيرْ لَمْحَايْرْﮜِي قائد سَرْبَةْ الْخَمْسِينْ، وأطلق عليه هذا التوصيف على اعتبار أن الخيال الْبَشِيرْ كان يقود كتيبة تتكون من خمسين خيّالا.

لقد كان كل من قائد الرحى "السّْوِيلْمِي" وقائد سربة الخمسين "الْبَشِيرْ لَمْحَيْرْﮜِي" يرافقان القائد عيسى بن عمر العبدي في موكب الصيدة، ويعتبران من الشخصيات المهمة في الموكب.

في هذا السياق استشهد حسن الزرهوني بكتاب الفرنسي فريديريك الموسوم بـ "على عتبة المغرب الحديث" في وصفه للقائد عيسى بن عمر العبدي حيث يقول عن القائد عيسى بن عمر: "كان مولعا بالفروسية والكلاب السّلوقية، والأسلحة النارية، وكذلك الصّيد بالصّقور" فإلى جانب عشقه وولعه بتربية الخيول الأصيلة، كان القائد مولعا بتربية كلاب السلوقي أيضا، وعاشقا لتربية الصقور واستعمالها في مواكب الصيدة.

وقد ورد في عيطة "شْرِيفِي سِيدِي حَسَنْ" ـ التي فصلنا فيها في عدة حلقات بجريدة "أنفاس بريس" ـ وهي العيطة الملقبة بـ "الزَّمْرَانِيَّةْ" هذه الإشارة التي تؤكد على لقبها المذكور "أَزَمْرَانْ، أَزَمْرَانْ. آشْ تْـﮜُولُوا فِي شْرِيفِي سِيدِي حَسَنْ؟"

وعن المواجهات مع المتمردين أو توثيق مظاهر موكب الصيدة ورد في نفس العيطة ما يلي:

"بَرْحُوا بِالسِّيبَةْ

هَزِّيتْ عَـﮜَّادِي وَمْشِيتْ

 يَا للهْ أَخُويَا نْحَيْحُوا ذْرَيْوَا"

ويعني ذلك لدى الناظم البحث والتفتيش عن المتمردين المختبئين وسط حقول قصب الذرة الكثيفة. و "ذْرَيْوَا" يقصد بها الناظم حقول الذرة الباسقة العلو، قصب الذرة أي "الْبَشْنَةْ" بالدارجة المغربية

"بَرْحُوا بِاللَّامَةْ

ﮜَالُوا النْزَاهَةْ فِي دَارْ الْقَايْدْ"

وهنا يتحدث الناظم عن البرّاح الذي أشهر وأعلن عن يوم إقامة النزاهة واحتفال القائد وإيالته بالنصر وإخماد انتفاضات القبائل وتمردها عليه، حيث يرافق ذلك الولائم وتقديم عروض التبوريدة، والأغاني والأهازيج الشعبية.

"بَرْحُوا بِالصَّيْدَةْ

هَزِّيتْ سْلَاحِي وَمْشِيتْ"

ويقصد الناظم أن موكب الصيدة الذي كان يقيمه القائد عيسى بن عمر، قد تم تحديد زمانه ومكانه والدعوة موجهة لمن يهمه الأمر، على اعتبار أن الموكب كان يضم عددا كبيرا من المشاركين كل حسب اختصاصه ومسؤولياته المحددة، وقد يصل عدد المشاركين إلى 800 مشارك من بينهم:

ـ الَحِيَّاحَةْ: وهم من يقوم بِالْحَيْحَةْ واستفزاز الوحيش وإخراجه من أوكاره ومخابئه وسط الغابات والأحراش والشعاب، سواء بالطبول أو زعيق المزامير أو الأصوات.

ـ الْحَبْحَابَةْ: وهم فئة مختصة في فنّ القول والنظم الموزون، ونظم الشعر في حق القائد المتمكن من الرماية واستعمال السّلاح، ويصفون لحظات الصيدة بكلام بديع وبليغ ويطلق عليه "لَكْلَامْ الرْبَاعِي" على شاكلة رباعيات الشاعر سيدي عبد الرحمن المجذوب مثل قول: "إِيلَا كُنْتِ رَامِي مَنْ الرْمَى/ ضْرُبْ الْحَجْلَةْ فِي السْمَاء/ تْعَيَّطْ وَتْـﮜُولْ/ أَحْبَابِي مَا سْخَيْتُوا بِيَّا"

إضافة إلى فئات أخرى تتكون من "لَمْشَاوْرِيَّةْ" و "الْفُرْسَانْ الْخِيَّالَةْ"، و "الْمُشَاةْ" الذين يشاركون بدورهم في موكب الصيدة، الذي كان يحط الرحال في غابة لَمْعَاشَاتْ ـ 550 هكتار ـ وهي الغابة التي تغنى بها شاعر العيطة في قطعة "خَرْبُوشَةْ" حيث يقول واصفا الحدث:

"زِينْ الصَّيْدَةْ

زِينْ السْلَاﮜْ

عِيسَى يَا بَنْ عُمَرْ

دَارْ سِّي عِيسَى ﮜَالُو زْهَاتْ

قْبَالْتْهَا لَمْعَاشَاتْ"

وكان يمتد موكب الصيدة مجاليا من غابة الَمْعَاشَاتْ الشاسعة الأطراف إلى حدود غابة الْغُزْيَةْ ثم غابة أَوْلَادْ عَلُّو، ومن بعد ذلك إلى غابة الشْيَاظْمَةْ بالقرب من أزمور، في ضيافة قياد منطقة دكالة، حيث كانوا يتبادلون مواكب الصيدة بين عبدة ودكالة.

ومن المعلوم أيضا أن القائد عيسى بن عمر العبدي كان يستعمل في موكب الصيدة أجود وأحسن البنادق "لَمْكَاحَلْ" والنموذج المفضل عنده كان هو بندقية "الْمَارْتِينِي" أي "ْجوِيجَةْ" أو "لَخْمَاسِيَّةْ" أو "لَعْشَارِيَةْ" التي ذكرت في العيطة حين قال الناظم:

"مُولْ الْعَوْدْ الطَّرْفَانِي فِي إِيدُّو لَعْشَارِيَّةْ وِيدَبَّبْ فِي الرَّجْلِيَّةْ"

 وعن عشق عيسى بن عمر لتربية كلاب السّلوقي أورد حسن الزرهوني في حديثه عن هذا الأخير بأنه لما كان في إحدى الحركات السلطانية بسوس سنة 1888م، عاد برفقته إلى منطقة تمرة أحد الأشخاص المولوعين جدا بالصّيد بكلاب السلوقي وتربيتها، وهو المدعو قيد حياته بـ "صَالَحْ وَلْدْ الْعَوْجَةْ"، والذي أتى ذكره في قطعة عيطة "الْوَادْ الْوَادْ" حيث يقول الناظم:

"صَالَحْ وَلْدْ الْعَوْجَةْ

ﮜَايَدْ سْلَاﮜُوا لِلصَّيْدَةْ"

فقد كانت مرافقة صَالَحْ وَلْدْ الْعَوْجَةْ للقائد عيسى بن عمر من أجل تكليفه بتربية ما يقارب 200 من كلاب السّلوقي التي كانت بحوزة القائد المولع بالصّيدة.

ولم يفت أن يشير الفنان حسن الزرهوني إلى أن عددا كبيرا من الوافدين الأمازيغ من منطقة سوس صوب منطقة عبدة قد استقروا بالمنطقة سواء بـ "تَمْرَةْ" أو "مُولْ الْبَرْﮜِي" أو "أَيِّيرْ" بعدما وهبهم القائد عيسى بن عمر حينئذ عدة أراضي، حيث ذكَّر في هذا السياق ببعض أسماء دواوير تكونت واستقر بها الأمازيغ مثل "الشّْلُوحْ" و "السْكَارْدَةْ" و "تِيفُوغَالْ" و "الصْوَامْدَةْ" و "إِيبُودَةْ" و "لَحْـاشَةْ" و "إِيتُورْكِينْ" و "ضْرَيْرَاتْ" و "أَوْلَادْ بَرَّحُو" و "أَيْتْ بُوعْسَلْ" و "الشْلِيحَاتْ".