الأربعاء 25 سبتمبر 2024
كتاب الرأي

محمد الكيحل: أحداث الفنيدق وأزمة التصور السياسي والرؤية التنموية للأحزاب السياسية؟

محمد الكيحل: أحداث الفنيدق وأزمة التصور السياسي والرؤية التنموية للأحزاب السياسية؟ محمد الكيحل
توطئة:
أثارت أحداث 16 من شتنبر 2024 فيما أصبح يعرف بأحداث الهجرة بمدينة الفنيدق، سؤال حول شرعية ووظيفة الأحزاب السياسية بالمغرب وهو سؤال تتولد عنه العديد من التساؤلات حول مستقبل السياسة ودور الأحزاب السياسية والوسائط الاجتماعية بشكل عام بالمملكة.
 
وإذا كان لا أحد يختلف على الدور المركزي والهام للأحزاب السياسية في الحقل السياسي الحديث وفي البناء النسقي للديمقراطية بمختلف البلدان، فإن مكانتها ببلادنا ازدادت قوة في ظل الوثيقة الدستورية الحالية التي بمقتضاها أضحت الأحزاب السياسية خيارا وثابتا ضمن الثوابت الأساسية الأربعة المشكلة لبنية النظام السياسي المغربي؛ فالحزب السياسي أصبح مؤسسة دستورية استراتيجية ومحورية تضطلع بمهام التأطير السياسي وتفعيل أبعاد الديمقراطية وتجسيدها عبر نظام التمثيلية، بل الأكثر من ذلك فإن مؤسسة الحكومة أصبحت من نصيب الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية التي يتم تنظيمها كل خمس سنوات.
 
معنى ذلك، أن الأحزاب لم تعد مهمشة في النسق السياسي المغربي كما كان عليه الأمر في السابق بحيث أضحت تتطلع، بالإضافة إلى المهام المنوطة بها بمقتضى قانون الأحزاب السياسية، بمهام تسيير وتدبير الشأن العام سواء على المستوى المركزي أو الجهوي والمحلي؛ فالحكومة لم تعد يتم تعيينها من قبل المؤسسة الملكية بل أصحبت تفرزها أصوات الناخبين بشكل ديمقراطي حيث يتم تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية.
 
لكن في الحالة التي يفوز فيها الحزب ويصل إلى المشاركة في ممارسة السلطة، فإنه يكون ملزما بأجرئة وتطبيق برنامجه قصد تمكين المواطنين من مجموعة حقوق في إطار ما تفرضه المواطنة مقابل ما يؤدونه من واجبات. وتتم الاستجابة لهذه الحقوق وترجمتها وتحقيقها واستفادة المواطن منها ضمن برامج ومشاريع وتشريعات وخطط حكومية بالنسبة للمستوى المركزي، وعلى المستوى المحلي من خلال مخططات التنمية المحلية التي تعدها وتنفذها الجماعات الترابية، خاصة وأن هذه الحقوق أصبحت مكرسة دستوريا بمقتضيات الفصل 31 من الدستور الذي يفرض على الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية أن تعبأ كل الوسائل والإمكانيات المتاحة لاستفادة المواطنات والمواطنين وعلى قدم المساواة.
 
بيد أنه، وبقراءة المشهد السياسي المغربي الحالي يتضح أن هذه الأهمية تبدو لا قيمة ولا أثر لها في الواقع السياسي والاجتماعي. وهذا ما أكدته أحداث الهجرة التي عرفتها مدينة الفنيدق في الآونة الأخيرة والتي تطرح العديد من الأسئلة الحارقة التي تؤدي إلى معطى أساسي ونتيجة واحدة مفادها أنه لم بعد أي دور للأحزاب السياسية في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والتوعوي للأسف ببلادنا؟ فما ما هي الأسباب التي أدت إلى الغياب التام لأدوار الأحزاب السياسية؟ هل هي بالأساس أسباب ذاتية مرتبطة بأعطاب الأحزاب السياسية نفسها ؟ أم أن الأمر يغدو أبعد من ذلك بحيث يمكن التسليم على أن هناك أسباب موضوعية مرتبطة بحدود الوظيفة المرسومة لها في النظام السياسي المغربي؟ وأخرى لها علاقة بالفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي السائد بالمجتمع بشكل عام؟
 
لا يتسع المقام هنا للحديث عن الأسباب الموضوعية التي كانت تحول دون قيام الأحزاب بوظائفها الأساسية المنوطة بها، لأننا نعتقد أن الكثير من هذه الأسباب قد خفت وطأتها، وإن كانت الدولة تتحمل بعض المسؤوليات في هذا الجانب، ونسيق هنا مثالا عن ذلك يوضح بعض مجال التهميش الذي لا زالت تعاني منه الأحزاب السياسية وخاصة على مستوى إشراكها في بلورة التصورات وتسطير التوجهات والخيارات العامة والاستراتيجية للمملكة.
 
وارتباطا بالموضوع فالدولة تتحمل من جهتها المسؤولية فيما وقع من أحداث 16 شتنبر 2024 بالفنيدق من منطلق كونها لا تقوم بإشراك الأحزاب السياسية في بعض التوجهات والقرارات المصيرية للمجتمع. ولنا أمثلة كثيرة عن ذلك في الحياة السياسية ولعل آخرها استبعاد ممثلي الأحزاب السياسية من تشكيلة اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد هذا الإبعاد أثار طرح سؤال يتعلق بدور الأحزاب السياسية ووظائفها في النظام السياسي المغربي، وهو في الحقيقة سؤال ليس بجديد على اعتبار أن استبعاد الأحزاب السياسية من المبادرات والأوراش ذات الطابع الاستراتيجي ليست وليدة اللحظة وإنما هي خاصية تلاحقها منذ الاستقلال؛ وهي بذلك يمكن تشبيهها ب " طائر منيرفا عند هيكل، ولكن بالمعنى السلبي لهذه الاستعارة، أي أن الأحزاب السياسية لا تبدأ عملها إلا بعد أن تكون تلك المبادرات والأوراش والخيارات الكبرى للدولة جاهزة، بمعنى أن دورها يقتصر فقط على التنفيذ أو على الأقل في تزكيتها، وفي أحسن الأحوال تتقمص دورا استشاريا بدل أن تكون هي المبادرة أي طرحها أو المساهمة في بلورتها.
 
وإذا كانت مسألة بلورة نموذج تنموي جديد قد أملته محاولة تحسين المعطيات والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والرفع من التحديات المطروحة على كافة المستويات المجتمعية والمجالية، فإن مسألة إشراك الأحزاب السياسية في تشكيلة لجنة النموذج التنموي الجديد تكتسي أهمية بالغة لأنها ستجد نفسها معنية، بكيفية مباشرة أو غير مباشرة بتنفيذ الأهداف والخيارات العامة التي تضمنها تقرير هذا النموذج؛ فالأحزاب السياسية معنية بالدرجة الأولى في تسيير الشأن العام الوطني وفي مختلف مجالاته الحيوية سواء من خلال مشاركتها في مختلف الاستحقاقات الانتخابية والتي تطمح من خلالها المساهمة في تقديم تصورات واقتراحات حول مختلف الإشكاليات المطروحة، عبر صياغة وبلورة برامج انتخابية والتي تشكل وعود انتخابية وتعاقد بينها وبين المواطنين، أو من خلال تقديمها لمذكرات حول مواضيع ذات أهمية مجتمعية وتكتسي صبغة استعجالية.
 
إلا أنه، وبالرغم من الاعتراف للأحزاب السياسية بالمشاركة في ممارسة السلطة من خلال ولوجها إلى مركز القرار السياسي في مختلف مجالاته وتجلياته المركزية والجهوية والمحلية، أو من خلال تمثيلها في مجلسي النواب ومختلف الهيئات المهنية، وذلك من منطلق أن من أهم الوظائف الموكولة لها بمقتضى الوثيقة الدستورية وقانون الأحزاب السياسية المشاركة في ممارسة السلطة، إلا أن الحزب السياسي حينما يصل إلى مواقع القرار يجد نفسه طرف في مربع السلطة التي تتشكل من أطياف أخرى متعددة وحاملة التصورات وبرامج مختلفة ومتنوعة، وبالتالي يجد نفسه مرغما على تنزيل مجموعة من الخطط والبرامج التنموية التي تعتمدها الدولة أو النظام كخيار السياسته العامة ولا سيما الاستراتيجية منها، والتي لم يشارك أصلا في بلورتها وفي أحسن الأحوال يتم إشراكه في النقاش الدائر حولها على غرار النموذج التنموي الجديد، الأمر الذي يضطر معه إلى الخضوع لقواعد اللعبة السياسية تحالفات، توافقات تنازلات ... الخ).
 
هذا مثال صارخ على بعض العوامل الموضوعية التي لازالت تساهم في تهميش الأحزاب السياسية والتقزيم من دورها، لكن في حقيقة الأمر حتى إذا ما تم إشراكها في الخيارات والقرارات المصيرية للمجتمع فالأحزاب لا تملك تصورات ورؤى حول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، فجلها، إن لم نقل كلها ، لا تمتلك تصورات صائبة واضحة وبرامج واقعية ودقيقة ومتجددة ترتبط بالواقع الاجتماعي المتغير والمشاكل المستجدة تلبي حاجيات المواطنين عند المشاركة في ممارسة السلطة وتشكل أساسا للتعاقد بين الحزب والكتلة الناخبة.
 
ومن خلال الاطلاع على مذكرات الأحزاب السياسية بشأن النموذج التنموي الجديد نجدها تتفق على ضرورة بلورة إصلاحات اقتصادية كأحد المداخل الهامة لهذا النموذج، بيد أنها لا تبدي أي موقف واضح اتجاه النمط الاقتصادي المغربي الحالي الذي عزز الفوارق الاجتماعية بشكل مهول وبشكل يكاد يقوض المقتضيات الدستورية المحددة لطبيعة النظام الاقتصادي المغربي. كما تحدثت جميع المذكرات على ضرورة محاربة اقتصاد الربع بيد أنها لم تعمل على تحديد مظاهره وآليات تشكله فضلا عن عدم تحديد الأدوات اللازمة لمواجهته، لذلك لم تمنح المذكرات المكانة اللازمة لمبدأ التنافس الحر في الاقتصاد والحياد الضريبي الذي ينبغي أن يتأسس عليه باعتباره آلية لضبط الاقتصاد والتنافس والاستثمارات ومنح الامتيازات.
 
كما تبين أن هذه المذكرات تتقاطع في استنادها إلى الدعوة الملكية لبلورة نموذج تنموي جديد وكذا عدد من الخطب الملكية ذات الصلة التي حملت إشارات في هذا الإطار، في حين أنها تتشابه من حيث خلوها من إشارات إلى أطرها المرجعية في بلورة هذه المذكرات، باستثناء نسبي لحزب الاتحاد الاشتراكي الذي أشار في مذكرته إلى أحد مؤتمراته التي ناقش فيها مسألة النموذج التنموي ولو بشكل محتشم. ومن الملاحظات كذلك، تقاطع المذكرات في توظيف قاموس مفاهيمي ينهل من الأسس الفكرية والإيديولوجية لكل منها. بيد أن تصورهما بشكل عام لا يساعد على رسم مسافة واضحة تسمح بالفرز الإيديولوجي بين المذكرات تبعا لما رسمته الأوراق المذهبية لكل حزب سياسي في هذا المضمار، مما يطرح سؤال مدى تملك الأحزاب السياسية المغربية لتصور تنموي بديل يعكس التوجه الايديولوجي الفعلي ومقوماته لكل حزب سياسي.
 
لذلك، يبدو أن الأحزاب السياسية لم تركز في مقترحاتها بشأن التصور التنموي على مقوماتها الإيديولوجية والمذهبية الفعلية رغم الإيحاءات التي جاءت بها بعض المذكرات في هذا الشأن، بل على بلورة تصورات تحاول من خلالها فقط الإجابة ولو نسبيا على الحاجيات التنموية للمجتمع والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين وغيرهم، مما يجعلها فاعلا في مجال التدبير وليس التقرير ويتحول تنافسها من تنافس حول الوصول إلى السلطة والحكم إلى تنافس حول الإدارة والتدبير، مع ما قد يترتب عن ذلك من تقويض للمستجدات الدستورية الهامة لدستور 2011 في هذا المجال.
 
في سياق هذه الاستنتاجات، يطرح سؤال جوهري حول لمن تعطى الأولوية في العملية الانتخابية للولاء الحزبي أو الشخصي؟ حيث تعرف الانتخابات المغربية منذ عقود سيطرة الاعتبار الشخصي في تحديد وجهة التصويت على حساب عامل الولاء الحزبي؛ فالتصويت على الأشخاص بذل البرامج الانتخابية الحزبية لا يزال السلوك الأكثر ممارسة في الانتخابات في المغرب، ولذلك نجد غالبية الأحزاب السياسية تعتمد على الأعيان والنافذين في المجتمع من أجل ضمان المقعد الانتخابي.
 
علما أنه، لم تكن هناك روابط في السابق بين الأحزاب والناخبين بالشكل الموجود في الدول الديمقراطية، فهناك فقط روابط قائمة بين الناخبين والمرشحين بشكل مباشر بدوافع عائلية أو قبلية أو مصلحية، ومع مرور الوقت أصبحت تحاول الأحزاب استقطاب ناخبين يقومون بالتصويت لاعتبار إيديولوجي كما هو الحال بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الاسلامي، أو لاعتبارات تخص البرنامج الانتخابي كما هو الحال لبعض أحزاب اليسار، لكن الملاحظ أن الأحزاب السياسية تتقدم أثناء الحملات الانتخابية بمجموعة وعود مصاغة بشكل إنشائي خالي من التدقيق وغالبا ما تتكرر عند كل استحقاق انتخابي بالإضافة إلى تشابهها بين عدد من الأحزاب.
 
فالناخبون المغاربة لم يعودوا يهتمون بالشعارات الانتخابية الرنانة فهناك حاليا ميل تدريجي لتبني المواطن علاقة مع الأحزاب أساسها التعاقد الانتخابي المتمثل في الوعود التي تتضمنها البرامج الانتخابية في الوقت الذي نجد فيه برامج الأحزاب السياسية لا تتضمن سوى وعود انتخابية غير قابلة للتطبيق، لأنها تفتقر إلى الروية والتصور وغير واقعية مادامت لا تحمل هموم وانشغالات المواطنين، في ظل افتقارها للكفاءات والأطر العلمية والزعامات السياسية التي تملك رؤية وتصورا عاما حول الوضعية العامة بالبلاد. كما أن عدم امتلاك الأحزاب لأبناك للمعلومات والمعطيات الكافية التي تهم جل المجالات والقطاعات تمكنها من معرفة مشاكلها ومحاولة اقتراح الحلول الكفيلة بتجاوزها، كلها معطيات لا تساعدها إعداد البرامج والتصورات الجدية وهو ما يكرس في الواقع أزمة التصور السياسي والرؤية التنموية للأحزاب السياسية المغربية.
 
وإذا كان من الصعب في ظل التعددية السياسية التي يعرفها المشهد السياسي المغربي الحديث عن إفراز العملية الانتخابية لاصطفاف إيديولوجي واضح ومعكوس في البرامج الانتخابية، فإن النموذج التنموي الجديد كان من المفروض أن يكون عكس ذلك بالنسبة للأحزاب السياسية، بحيث لا يتعلق الأمر باستحقاق انتخابي لفرز أغلبية حكومية وإدارة الجهاز التنفيذي، بل بتصور استراتيجي يتوخى تحديد المعالم الكبرى التي يتعين من خلالها تعزيز التراكمات الإيجابية وإحداث قطائع لأزمة مع سياسات وأنماط إدارية وتدبيرية أثبت الزمن فشلها.
 
ولما كان الأمر يتعلق ببلورة نموذج تنموي جديد للدولة والمجتمع وليس ببرنامج حكومي أو انتخابي فإن الأحزاب السياسية المغربية في إطار تفاعلها مع هذه المبادرة ليس المطلوب منها تقديم مذكرات حاملة لتصورات تستند إلى الحد الأدنى من المعايير التي يمكن التوافق بشأنها بين القوى الفاعلة في المجتمع السياسي، بل بلورة تصورات مستندة إلى ما تؤمن به من قناعات إيديولوجية وسياسية تمكن من إحداث الانتقال المطلوب الذي يريده المغرب والمغاربة في احترام للثوابت الوطنية.
 
غير أن هذه الأمور لا يجب أن تجعل منها تلك الشجرة التي تحجب من ورائها جملة من الأعطاب والاختلالات الذاتية التي تعاني منها الأحزاب السياسية، التي تعتقد بأنها تعتبر من العوامل الأساسية التي أدت إلى تشرذم الأحزاب السياسية وضعفها وفقدان مصداقيتها لدى مناضليها والناخبين الذي صوتوا عليها في الانتخابات التشريعية أو الجماعية وكافة المواطنين المغاربة وهي أعطاب ظلت وللأسف الشديد لصيقة بها في النظام السياسي المغربي.
 
فالأحزاب السياسية تعرف مجموعة من العوائق الذاتية بالخصوص تؤثر سلبا على أدائها لوظائفها في التأطير والتكوين ووضع البرامج التي تؤهلها للمشاركة في ممارسة السلطة، وتتجلى أهم العوائق في غياب الديمقراطية داخل الأحزاب سواء في تولي المسؤوليات والتداول عليها أو خلال اختيار المرشحين باسم الحزب للانتدابات الوطنية والمحلية.
 
في الغالب ما يتم اعتماد منهج التعيين بدل الانتخاب كالية ديمقراطية يجب أن تسود تدبير الحزب ويصاحب منهج التعيين عادة القرب من مراكز القرار داخله أو التوفر على مركز مالي مهم. وهذه الاختيارات غالبا ما تتم على حساب الكفاءة والتجربة والنزاهة ، كما أن تراجع الديمقراطية داخل الأحزاب تؤدي إلى الانشقاقات حيث أصبحنا أمام تعددية مفرطة أساءت إلى منطق التعدد وأدت إلى نشوء أحزاب ليس بمقدورها تقديم أية إضافة ايجابية للمشهد السياسي وظلت أحزابا مجهرية، ومن نتائج غياب الديمقراطية داخل التنظيمات الحزبية التي تؤدي في الغالب إلى الإقصاء وتضييع جهود الحزب في الكواليس والصراعات الداخلية، أصبحت هذه الأخيرة تقبل بين أعضائها الفاسدين والمرتشين وتتغاضى عن الإخلال بالمسؤولية والأمانة من هؤلاء الأعضاء خاصة الذين يتحملون مسؤوليات وطنية أو محلية الأمر الذي يفتح الباب واسعا أمام هؤلاء للإثراء بلا سبب وارتكاب شبهة الفساد في غياب المراقبة والمحاسبة مما يجعل اليأس والبؤس وغياب الثقة لدى المواطنين يفقدون الثقة في الاحزاب السياسية ومصداقية العمل السياسي وبالعملية والمؤسسات الانتخابية برمتها.
 
لقد أن الأوان أن يتخلى الفاعلين السياسيين عن الشعارات السياسية والمذهبية الجوفاء والشعارات والوعود الانتخابية المزيفة والكاذبة. فلا بد من أن تتحمل الأحزاب السياسية مسؤوليتها كاملة في تأطير وتكوين نخب مؤهلة ذات مصداقية ونزاهة وكفاءة عالية في تدبير الشأن العام، تكون حريصة على تواصلها الدائم مع الناخبين والاستماع لمطالبهم وحاجياتهم ونقلها للمؤسسة التشريعية والاستجابة لها عبر الآليات القانونية المتاحة سواء على مستوى الحكومة أو البرلمان أو المجالس الترابية المنتخبة، فالتمثيل السياسي يعني نقل تصورات ومطالب المحكومين والتعبير عنها سياسيا ومؤسساتيا.
 
خاتمة
إذا كان من الصعب في ظل التعددية السياسية التي يعرفها المشهد السياسي المغربي الحديث عن إفراز العملية الانتخابية لاصطفاف إيديولوجي واضح معكوس في البرامج الانتخابية، فإن النموذج التنموي كان من المفروض أن يكون عكس ذلك، بحيث لا يتعلق باستحقاق انتخابي لفرز أغلبية حكومية وإدارة الجهاز التنفيذي، بل بتصور استراتيجي يتوخى تحديد المعالم الكبرى التي يتعين من خلالها تعزيز التراكمات الايجابية وإحداث قطائع لأزمة مع سياسات وأنماط إدارية وتدبيرية أثبت الزمن فشلها.
 
تكشف أحداث الفنيدق المرتبطة بمعضلة الهجرة بما لا يدع مجالا للشك، أن هناك أزمة الرؤية التنموية لدى الأحزاب السياسية وهذه الأزمة لا يمكن الكشف عنها انطلاقا من مذكرات وبرامج الأحزاب السياسية بخصوص رؤيتها وتصورها للنموذج التنموي الجديد دون ربط ذلك بنشأة وتطور الأحزاب نفسها ؛ فمن خلال قراءة سريعة للظروف والحيثيات التي رافقت نشأتها يلاحظ أن تحولات كل مرحلة كانت محكومة بالدرجة الأولى بالظروف السياسية للمرحلة نفسها.
 
أزمة الرؤية التنموية للأحزاب السياسية المغربية هاته، لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن الهشاشة المزمنة في التنظيم التي باتت تعيشها حيث إن نظاما حزبيا هشا لا يمكن أن يفرز إلا نموذجا تنمويا هشا أيضا. صحيح أن ثمة عوامل مختلفة أدت إلى تعميق هشاشة التنظيم الحزبي المغربي بيد أن ذلك لا يقتصر على المقاومين للتغيير والتحول داخل النظام السياسي، بل تتحمل جزءا منه الأحزاب السياسية المغربية نفسها التي أضحت عاجزة عن صياغة النخب ومتماهية مع زعماء تقليديين لا يترددون في مقاومة ومناهضة كل ما هو مختلف تحصينا لزعامتهم ولو كلف الأمر تجسيد السلوك الانشقاقي كالية لتصريف الخلاف الحزبي الداخلي.
 
فالأحزاب السياسية مطالبة بتبني برامج تتعدى فيها القضايا الكبرى للبلاد واقتراح أفكار جديدة لها وآليات قابلة للتنفيذ، وفي ذلك تأكيد على ما نص عليه القانون التنظيمي للأحزاب الذي يلزم هذه الأخيرة بالتوفر على أنظمة أساسية وأنظمة داخلية وعلى برامج توضح تصورها لحل القضايا المطروحة، وذلك حتى يكون التنافس في لحظة الانتخابات بين الأحزاب قائما على البرامج والمشاريع أكثر منه على المقاعد والمواقع كما يجري حاليا.
 
كما يتطلب الأمر، إعادة الاعتبار لمصداقية المشهد السياسي الوطني وهو أمر يتوقف على تشكيل أقطاب سياسية حقيقية تعقلن الحياة الحزبية، لأن التعددية الحزبية المفرطة التي نعيشها اليوم تجزئ وتشرذم المشهد الحزبي ولا تخدم الديمقراطية. وبالتالي على الأحزاب المغربية أن تجتمع في تتكتل في حزبين أو ثلاث تجمع بينهم قواسم مشتركة وأفكار وبرامج سياسية موحدة مع تغليب المصلحة العامة للوطن لا البحث عن المصالح الشخصية الضيقة، ولأن تكون خاضعة لمنطق التوجيهات والتحكم في قراراتها السياسية من قبل ما يسميه البعض بحكومة الكواليس أو حكومة الظل، لأن عقلنة الحياة الحزبية واسترجاع ثقة المواطنين في المؤسسات الحزبية يستلزم أن تكون هذه الأخيرة مستقلة عن الإدارة.
 
لكن تحقيق هذا التحول يرتبط بشكل كبير باندماج جميع مكونات الدولة المتعددة والمختلفة والانصهار ضمن رؤية موحدة عامة يتم الاتفاق فيها على خطوط عريضة لا تلغي الاختلاف في الجزئيات والتفاصيل والاجراءات والخطط المرحلية، بل وحتى ترتيب بعض الأولويات، وهذا ما تجسده البرامج الحكومية التي يجب أن تتبارى فيها الأحزاب وتبدع في بلورتها حتى تنسجم مع الأهداف التنموية البعيدة وتصل بنا إلى المغرب الذي يتوخاه المغاربة أخذا بعين الاعتبار التنوع الثقافي للمجتمع المغربي واستفادة كل المناطق الوطنية من عوائد التنمية وفي إطار احترام تام للثوابت الوطنية وفي مقدمتها المؤسسة الملكية الضامنة للاستثمار والاستقرار في بلادنا وفي محيطها القاري والإقليمي.