الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

حسن مخافي: الجامعة المغربية في مهب رياح "الإصلاحات" المتسرعة

حسن مخافي: الجامعة المغربية في مهب رياح "الإصلاحات" المتسرعة حسن مخافي

من يتأمل أوضاع الجامعة العمومية اليوم، يدرك أن مشاكلها أصبحت تستعصي على الحل، وأن هذه المشاكل أضحت "بفعل فاعل" تهدد هذه الصروح العلمية التي نسميها جامعات، في كيانها ووظائفها، وتحول دون قيامها بالدور المنوط بها باعتبارها رافعة للتنمية والتقدم.

 

 فقد أدت الحالة المأساوية التي آلت إليها أوضاع الجامعة العمومية إلى بروز بعض الظواهر التي كانت تعد قبل عقدين من الزمن غريبة عن الحرم الجامعي، ومنها تفشي العنف الذي طال الأساتذة والطلبة معا، وهو ما مس من مكانتها الاجتماعية والثقافيية والعلمية باعتبارها فضاء للمعرفة والتكوين على احترام التعدد والإيمان بالاختلاف وفضيلة الحوار.

 

وعوض العمل على ترسيخ مبدأ الشراكة الذي بشر به الميثاق الوطني للتربية والتكوين منذ أكثر من عقدين، اختار المسؤولون عن التعليم العالي اليوم الهروب إلى الأمام، ففتحوا الباب على مصراعيه أمام الرأسمال الوطني و الأجنبي كي يستثمر في عقول المغاربة. ومن ثمة انحازوا إلى اختيار يزيد التعليم العالي تشتتا ويعرضه للبيع والشراء في سوق البورصة الذي تكون الغلبة فيه لمن يدفع أكثر. هذا يعني أن توحيد التعليم العالي ومجانيته، وهما من المبادئ التي دافع عنها المغاربة منذ الاستقلال، أصبحا من الماضي.

 

لا شك في أن هذا "الاختيار" الذي يوضح إلى حد تعبت الدولة بأبنائها، يعمق الشرخ بين "تعليم نخبوي" تتوفر له كل شروط النجاح، و"تعليم عمومي" توضع في وجهه كل العراقيل التي تحول دون أن يودي مهمته على الوجه الأكمل، مما خلق جوا من انعدام الثقة في الجامعة العمومية وأدى إلى خلل في تكافؤ الفرص بين المتعلمين.

 

هناك من يرى في هذا الموقف من مؤسسات التعليم العالي الخاصة، نشازا، لأن السياق الحالي الذي يقوم على اقصاد السوق لم يعد يتحمل هذه الغيرة الزائدة على المؤسسات العمومية في ظل سيادة منطق الرأسمالية المتوحشة.

 

وإذا سلمنا جدلا بهذا المنطق الذي لا تتبناه حتى الدول ذات التجارب العريقة في الرأسمالية واقتصاد السوق، فإن الأمر يحتم العمل على تأهيل الجامعة العمومية، بشكل يجعلها مستعدة لخوض مجال المنافسة الذي يؤدي إليه فتح جامعات دولية ويمنح الجامعة العمومية القدرة على الصمود في وجه الرأسمال العالمي. ولكي تتأهل الجامعة  لتقوم بهذا الدور، عليها أن توفر للأستاذ والطالب معا نفس الشروط التي توفرها الجامعات الخاصة.

 

وواقع الجامعة العمومية اليوم يشير إلى أنها تعرف انتكاسة حقيقية على جميع المستويات، وجهها البارز أن أكثر من أربعين في المائة من الطلبة يغادرون الجامعة دون الحصول على أية شهادة، وأن أغلب الذين يصمدون حتى يحصلوا على الشهادات لا يجدون شغلا يتماشى مع تكوينهم.

 

السبب في ذلك راجع إلى أن المحاولات المتكررة لإصلاح التعليم العالي ببلادنا لم تنبع من إرادة سياسية حقيقة ومن تخطيط استراتيجي يضع الجامعة في المكانة التي تستحقها باعتبارها فضاء للمعرفة يحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن ثم ظلت الحكومات المتتالية تنظر إليها على أنها عبء مالي على الدولة. في حين أن كل إصلاح للتعليم العالي له كلفته المادية باعتباره استثمارا حقيقيا في العنصر البشري.

 

لا يمكن للجامعة العمومية أن تحتل مكانتها بين جامعات العالم إلا إذا وجدت حلولا لبعض المعضلات التي رافقتها منذ سنين، ومنها على سبيل المثال لا الحصر معضلة الاكتظاظ. فالأستاذ بالجامعة المغربية ما زال يلقي دروسا أمام أكثر من خمسمائة من الطلبة دفعة واحدة، وما زال يصحح أكثر من ألفي نسخة من أوراق الامتحانات، وما زال يجري الأعمال التطبيقية والتوجيهية لعدد يستحيل معه التواصل المباشر مع جميع الطلبة.

 

كما لا يمكن للجامعة المغربية أن تحتل مكانتها بين جامعات العالم إلا إذا وفرت للأستاذ شروط البحث العلمي. والحال أن أساتذة التعليم العالي بالمغرب ينفقون من أجورهم الخاصة كي ينجزوا أبحاثا. ونحن من الدول القليلة في العالم التي تصر على فرض ضريبة على البحث العلمي كي تزيد على كاهل الأستاذ ثقلا على ثقل.

 

وأخيرا وليس آخرا، فإن الجامعة المغربية بحاجة إلى تدبير ناجع لشؤونها، وإلى دمقرطة حقيقية لتسييرها وإلى استقلالية كاملة تجعلها بمنأى عن تقلبات أمزجة الحكومات والوزراء. ذلك أن الفساد الذي طال كل شيء في الحياة العامة ببلادنا بدأ يتسرب شيئا فشيئا إلى الجامعة المغربية، وتلك هي الطامة الكبرى.

 

لا يبدو أن "الإصلاح" الذي جاءت به الحكومة الحالية قادر على حل هذه المشاكل، لأنه يعكس محاولة تتسم بالهجنة ولا تراعي سوى تقليل الكلفة المالية للتعليم العالي التي يبدو أن الحكومة ضاقت ذرعا بحجمها، على الرغم من أن المبلغ المخصص لكل طالب جامعي ببلادنا كي يحصل على الإجازة مثلا أقل بكثير من المعدل العالمي.

 

إن التركيز على سياسة التقشف التي تنهجها الحكومة تجاه الجامعة المغربية دو غيرها من القطاعات، يؤكد انعدام الثقة لديها في البحث العلمي بالبلاد، ويشير في نفس الوقت إلى استخفاف كبير بقضية تعد من أمهات القضايا بالنسبة لكل حكومة تحترم نفسها، هي قضية التعليم بصفة عامة والتعليم العالي بصفة خاصة, وقد أدى هذا الهاجس المالي لدى الحكومات المتوالية ولدى الحكومة الحالية بالخصوص إلى تبني "حلول" سهلة  تفرغ الجامعة من أي محتوى.

 

فالبرنامج الذي اعتمدته حكومة السيد أخنوش الذي اجتهد وزير التعليم العالي في إيجاد صياغة براقة له، وجدها في عبارة "المخطط الوطني لتسريع تحول منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار" يهدف في جوهره إلى إقبار ما تبقى من التعليم العالي والبحث العلمي. فإذا كانت الجامعة فضاء للمعرفة العلمية بالدرجة الأولى، فإن هذا البرنامج يهدف إلى جعلها في أحسن الأحوال مركزا لتكون تقنيين من الدرجة العاشرة، حين أغرق المسالك بمجموعة من الوحدات التي لا علاقة لها بالتكوين الأساسي. ذلك أن عملية إحصائية بسيطة تبين أن الطالب وفق هذا المخطط، لا يتلقى سوى عشرين في المائة من الوحدات التي لها علاقة مباشرة بتكوينه، والباقي وزع بين عدد من المهارات، كان من المفروض أن يكتسبها في الابتدائي والثانوي.

 

ليس هذا سوى مثال فقط على تهافت هذا المخطط الذي تعتريه صعوبات لوجستية شتى في إخراجه إلى حيز الوجود، وهو ما يمنح الانطباع بأن المخطط يشبه سابقيه في إصلاح التعليم العالي من حيث التسرع وعدم مراعاة خصوصية الجامعة المغربية وعجز فادح عن إدراك حاجات البلاد وتحديد الأهداف الواضحة للوصول إلى تحقيقها.

 

إن قضية التعليم العالي هي قضية وطنية بامتياز، لذلك فإن كل محاولة لإصلاحه ينبغي أن تكون منبثقة من قاعدة استشارية واسعة تستحضر واقع البلاد وحاجتها إلى أطر ذات كفاءة وإلى باحثين يسايرون التقدم العلمي. وهذا يعني أن مسألة إصلاح التعليم ليست من اختصاص حكومة بعينها بل ينبغي أن تساهم فيه كل مكونات البلاد.

 

فلا يعقل أن يأتي وزير، ويقوم بعد تعيينه مباشرة، بوأد مشروع زميل سابق له بالكاد رأى النور. كما لا يعقل أن يصبح لكل وزير للتعليم العالي مشروعه الخاص بإصلاح التعليم العالي فقط لأنه وزير. وهو ما يحول الجامعة المغربية إلى حقل تجارب يخضع لرغبة ذاتية للوزير المعني ولا يلبي الحاجات الملحة لجامعة تعد لتسهم في بناء نموذج تنموي حقيقي.

 

فلو أخذ وزير التعليم العالي الحالي بعين الاعتبار عناصر تقويم نظام الوحدات، ولو استثمر النقاش العميق الذي صاحب التهييء لنظام الباشلور الذي اقترحه الوزير السابق، لأدرك بأن إصلاح التعليم العالي ليس مسألة تقنية، بل هو مسألة رؤية شاملة لما ستصبح عليه بلادنا بعد عقود. والافتقار إلى الرؤية هو ما تعانيه بلادنا في شتى المجالات ولا سيما في تدبير شؤون التعليم العالي.