الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عادل الزبيري: مدينة الفنيدق.. نهاية السير

عادل الزبيري: مدينة الفنيدق.. نهاية السير عادل الزبيري
يبدو صادما مشهد وضع حواجز حديدية، في سابقة من نوعها، على طول جزء من شاطئ مدينة الفنيدق، لمنع وصول أي كان صوب شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
هل وضع هذه السياجات جاء في سياق المقاربة الاحترازية للإدارة الترابية المحلية في إقليم الفنيدق والضيق.
لعمري أن هذا الكورنيش ضائع، برماله الترابية الرمادية، تذكرني بشواطئ مصايف طفولتي في كالايريس في ضواحي مدينة الحسيمة.
تتكأ نساء الإنعاش الوطني، كما يسمون في الفنيدق، في استراحة نهارية مشروعة، على ما يبدو، بعد سويعات صباح من عمل شاق ميداني في تنظيف الكورنيش.
تتكأ مدينة الفنيدق على تلة من أحد جبال سلسلة جبال الريف في شمال المغرب، مستلقية على البحر الأبيض المتوسط، ماسكة على آخر المغرب ترابيا، قبل مدينة سبتة، التي تلقب مغربيا بالسليبة.
فمدينة سبتة السليبة، تقع هنالك على مرمى بصر من يقف على ارتفاع في مدينة مغربية أخرى، ترك الإسبان لها اسم "كاسطيييخو"، فيما اسمها المغربي الفنيدق، ربما تصغير لكلمة فندق.
يعرف سكان مدينة الفنيدق أن بحرهم المتوسطي بارد جدااا صيفا وخريفا، لذلك بعضهم لا يزعم على ركوب مغامرة الهجرة غير القانونية عبر السباحة، فيما للأسف الشديد توفي شباب في المدينة خلال محاولتهم الوصول إلى ما يقول شباب المدينة في أحاديثهم في المقاهي، بأنه الحل الأخير للنجاح، بينما وصل آخرون في نهاية من خير للمغامرة، بالرغم من أنني أكره الهجرة غير القانونية، أي الحريك، وأحاول كلما لقيت شابا حالما، حثه على العض على الوطن المغرب، لأنه بلد الفرص أيضا.
أكدت أحداث باب سبتة أن الجيل الصاعد المغربي، من فئة أقل من 20 عاما، يريدون نجاحا حياتيا سريعا جدا، يريد أن يخيط حياته على مقاس الوجبات السريعة، يتحدث بكلام أكبر منه، أو يردد عبارات كنتاج للشحن الصادر على منصات التواصل الاجتماعي، وسط ضعف في الإقناع من النظام التعليمي المغربي وتراجع الأسرة، وتيه حقيقي في الإعلام المغربي. 
تحولت مدينة الفنيدق في شمال المغرب إلى منتجع سياحي صيفي فقط، على امتداد شهرين اثنين، لتغرق المدينة المتوسطية الصغيرة، وفق تعبير أهلها، في سبات عميق طيلة باقي شهور العام، في انتظار خريطة طريق تنفض الغبار عن مرحلة ما بعد إغلاق تاريخي وشجاع للتهريب المعيشي.
في مدينة الفنيدق مقاهي فاخرة ومحلات تجارية، في حي أنيق اسمه سيراميكا، فيما لا يزال الحي التاريخي الذي ارتبط بتجارة السلع والبضائع القادمة من إسبانيا، فقيسارية المسيرة الخضراء لا تزال كما كانت في تسعينات الفرن العشرين.
في جولة في أسواق المدينة، تجار منقسمون بين من يتابع مباراة نادي ريال مدريد الإسباني في دوري عصبة الأبطال الأوروبية، لا يريد الجواب على أي استفسار عن ثمن البضاعة، فيما تجار أخر ينتظرون أي زبون عابر للبيع، بينما سلع مدينة الدار البيضاء، عاصمة المغرب الاقتصادية، وصلت بقوة لتنافس سلع إسبانيا.
لا يزال زوار المدينة، من أصحاب السيارات المرقمة في العاصمة الرباط وجارتها مدينة الدار البيضاء، يشترون سلع أسواق الفنيدق، في استمرار لمشهد تاريخي مغربي.
تبحث مدينة الفنيدق عن مخرج لحالة الجمود، وفق تعبير أهلها، ببناء نموذج اقتصادي تجاري جديد، بعيدا عن التهريب المعيشي الذي انتهى تاريخيا، وعدم تقديم منطقة الخدمات الاقتصادية لبديل، كما يقول أهل الفنيدق.
يبدو أهل الفنيدق، للقادمين من العاصمة المغربية الرباط، متفرجين سليين على حالهم، مكبلة الأيادي عندهم، غارقين في نوستالجيا سنوات الازدهار مع تجارة السلع المهربة، و"الهموووز والتدابر"، كلما سألتهم تجد أن التاريخ لديهم توقف، يحتاجون إلى الإنصات لأنين صامت، مرسوم على العيون، يهمسون به في نبرة خافتة.
ترتفع عمارات سكنية في الواجهة على البحر الأبيض المتوسط لمدينة الفنيدق، بناء عصري، فيما يجلس شباب وشيب ونساء وصغار، خصوصا بعد صلاة العصر، على ناصية صور قصير، تحول إلى بلكونة للنظر إلى سبتة القريبة من القلب، ولكن البعيدة من العين.
غزل الوقت وبناء بيوت عنكبوت من أحلام من التمارين اليومية في مدينة الفنيدق، لأن الأحلام المحلية المغربية لا تغري أحدا، خصوصا أمام العدد الكبير للسيارات التي تحمل لوحات ترقيم إسبانية لمن يسمون محليا في الفنيدق ب "سبتاوة"، أو لمغاربة تحولوا إلى مهاجرين قانونيين في مدينة سبتة المحتلة إسبانيا.
يحضر النادل قهوة سوداء لي في صباح صيفي من شهر شتنبر/ سبتمبر، فيما الشمس ترسل دفئها إلى وجوه المتواجدين خلف الزجاج السميك ينظرون إلى مياه البحر الأبيض المتوسط.
في القلب، غرفة حب لهذه المدينة، لا زلت أتذكر أنني انتزعت بعد إصرار من أسرتي أول لعبة يدوية كهربائية من أسواق هذه المدينة المتوسطية، في يوم قررنا فيه السفر من طنجة في اتجاه الفنيدق، في عملية تسوق كبيرة، لشراء أفضل البضائع الأوروبية بأحسن الأثمنة.