الأحد 8 سبتمبر 2024
اقتصاد

باحث يفكّك سؤال: أي فلاحة للواحات نريد وأي وجهة نحن نسير إليها؟

باحث يفكّك سؤال: أي فلاحة للواحات نريد وأي وجهة نحن نسير إليها؟ فيصل الحسّاني، وهو أستاذ باحث في الموارد المائية والتنمية المستدامة
يفكّك فيصل الحسّاني، وهو أستاذ باحث في الموارد المائية والتنمية المستدامة، ما تتعرض واحات المغرب من استنزاف وتدمير ونزيف من آسا إلى فكيك وتمظهرات ذلك المجالية والترابية والبيئية والفلاحية".

وعدّد الباحث الحسّاني في حوار مع "أنفاس بريس"، المداخل الممكنة من "أجل العمل الجماعي للاستعادة الواحات إلى الواجهة، لأن ذلك يحتاج إلى استراتيجيات  بعيدة المدى تتماشى مع أهداف التنمية المستدامة  وبذل مجهودات كبيرة عن طريق تنزيل برامج تمس مختلف أزمات الواحات المغربية بمشاريع متكاملة تستحضر مبادئ التنمية المستدامة وتنزيل حقيقي تشاوري تشاركية".
 وفي ما يلي نصّ الحوار:
 
تتعرض واحة المغرب من أسا إلى فكيك لاستنزاف وتدمير ونزيف، كيف تقرأ ما حصل؟
تغطي الواحات مساحة شاسعة من البلاد وتمتد من الحدود الجزائرية المغربية بواحة فجيج إلى الساحل الأطلنتي جنوب سوس، وتنتشر الواحات على جنبات الأودية عموما، خصوصا في: درعة، زيز، غريس، كير، زوسفانة...
واحات درعة العليا الممتدة من منابع روافد درعة بالسفوح الجنوبية للأطلس الكبير الأوسط ( دادس، امكون، ...) وهي واحات يغلب عليها الطابع الجبلي على منوال تنغير، قلعة مكونة، خميس دادس، سكورة. وباستثناء هذه الأخيرة، فإن تواجد النخيل يبقى ضعيفا عكس أشجار الورديات عامة وأخرى مثمرة وخصوصا اللوز والتين .واحات درعة الأوسط المكونة أساسا من النخيل المثمر، وهي واحات مزكيطة، تنزولين، ترناتة، فزواطة، اكتاوة والمحاميد .انطلاقا من فم زكيد، تمتد واحات درعة السفلى والتي تهم إقليمي طاطا وكلميم. وتجدر الإشارة إلى كون هذه الواحات لا تتواجد على نهر درعة بشكل مباشر كما هو الحال في واحات درعة الوسطى، بل تنتشر غالبا في السفوح الجنوبية للأطلس الصغير على طول روافد درعة وأساسا وديان: تمنارت، طاطا، أقا، تيسينت، وأسا.
 
وتتركز واحات تافيلالت والتابعة اداريا لإقليم الراشيدية (فركلة، غريس، الرتب، بوذنيب، الجرف، أرفود، الريصاني...) وكذا إقليم تنغير ( تودغى، ألنيف، حصيا...) تستفيد هذه الواحات من أودية زيز كير غريس معيدر حيث توفر هذه الأودية مياها سطحية مهمة، وتساهم كذلك في تطعيم الفرشات الباطنية، كما تتواجد عدة واحات غير مرتبطة بالأودية، بل تعتمد على المياه الجوفية (واحات الجرف، واحة تيزكاغين بفركلة- تنجداد)، وتتميز واحات فجيج والتي ارتبطت نشأتها أساسا بمياه العيون المائية المتعددة بالإضافة إلى مياه واد زوسفانة ذو الطابع الموسمي .وتتواجد خارج النطاق المذكور واحات أخرى كواحة بوعنان على واد كير و كذا واحات أسرير وتغمرت بإقليم كلميم جنوب سوس ثم واحة ( سيدي ابراهيم بمراكش) على واد تانسيفت لتي يعود قدمها إلى المرحلة المرابطية حسب القرائن التاريخية.
        
وينتمي مجال الواحات المغربية إلى النطاقات المناخية الجافة والصحراوية، تعتبر بذلك الواحات كما  هو معروف ثاني محمية المحيط الحيوي بعد الأركان بالمغرب، حيث يشكل مورد الماء أهم عنصر للوجود و أساس خلق الواحة؛ وبالتالي السبب الأساسي في ميلاد حضارة الواحة وبذلك فاستمرار الواحة أو اندثارها رهين بتوفر الماء من عدمه، بذلك يقتضي استغلال الماء بهذه المجالات كثيرا من الحذر وترشيدا ضروريا. فهاجس الأمن المائي، صاحب تاريخيا مجتمعات الواحة، مما خلف حضارة مائية غنية تتسم بأنماط تدبير مختلفة كلها تروم إلى تثمين الماء والحفاظ عليه لضمان استمرارية الواحة.
 
وبالنظر للمعطيات الطبيعية المتباينة من انفتاح بعض الواحات على الصحراء الكبرى وتموقع الأخرى بجنبات الجبال، وكذا التباين الطفيف في الخصائص المناخية والهيدروجيولوجية للمجالات الواحية، فإن المياه تبقى قليلة ومحدودة، الأمر الذي فرض مقاربة تدبير الندرة لدى مجتمعات الواحة والتي امتدت لقرون من الزمن و خلفت لنا أنماط تدبيرية مختلفة للموارد المائية السطحية (أكوك والساقية) والباطنية (أغرور، الخطارات)، وهنا يبرز دور التدبير الاجتماعي للموارد المائية وكذا الممارسات الفضلى للتدبير التي اكتسبها انسان الواحة من خلال الدراية المحلية التي كسبها عبر احتكاكه بندرة الماء و توالي سنوات الجفاف، خصوصا بعد التدخل الاستعماري الذي أثر على بنية مجال الواحة من حيث ملكية الأرض والماء بالإضافة إلى الدينامية السكانية التي رافقة القرن العشرين وأدت الى انفجار القصر إثر التزايد الديمغرافي والضغط المتزايد على الموارد الطبيعية وخصوصا الماء بالمجالات الواحية، إن الواحة في تاريخها الطويل عاشت مجموعة من الانتكاسات (الجفاف البنيوي، التصحر، تراجع الفرشات الباطنية، أمراض أشجار النخيل خصوصا مرض " البيوض"، الحرائق، نقص الحكامة التدبيرية ...)، زيادة على ذلك فما ميز الواحات يبقى هو التدبير الجماعي و الاقتصاد التضامني الذي تراجع بالمجالات الواحية كلما زاد انفتاحها على الأسواق و الرأسمالية العالمية التي يبقى هاجسها هو الربح وفقط دون مراعاة جوانب أخرى مثل الجانب البيئي الذي جعل من هذه المجالات الهشة مجالات عطوبة.
 
عادة يتم نسب موت واحات النخيل و دمارها للتغيرات المناخية. هل تتفق مع هذا التوجه و ما قراتك لذلك؟
تبقى أسباب تراجع/ موت واحات النخيل متعددة ويصعب حصرها نظرا لترابطها الوثيق ( السياسي، الثقافي، الاجتماعي، البيئي، الديموغرافي ...) فبالنسبة للتغيرات المناخية لديها تأثير بالغ على الوضع الذي تعيشه الواحة من خلال تراجع التساقطات و ارتفاع معدلات الحرارة الشيء الذي أدى من جهة إلى ارتفاع معدلات التبخر واختفاء بعض المسطحات المائية بالإضافة الى تنشيط ظاهرة التصحر التي تزحف بالرمال  الى المجالات المزروعة.
             
هكذا تنقص المساحات المزروعة من جهة وتنقص المردودية الفلاحية من جهة أخرى بينما التوجهات الاقتصادية داخل الواحة التي تتميز أساسا بالزراعات المعاشية لا التسويقية وتعتمد الاقتصاد المعاشي ،عرفت دينامية وتحولات كبيرة(الانفجار الديموغرافي، الرغبة في الربح وغزو الاسواق، تغير نمط العيش...) أدت الى تزايد الحاجيات والمتطلبات، ويعتبر الانفتاح على الموارد المائية الجوفية هو بمثابة بداية نهاية الواحة التقليدية حيث يتم استغلال الفرشات الباطنية بكيفية بشعة تفوق قدرتها على التجدد ففي البداية ( بعد الاستقلال كانت جل فرشات الواحات المغربية على عمق يتراوح بين 10 إلى 18 متر) فبذأت تجربة الضخ الآلي مع محاولات حثيثة لعصرنة أنظمة السقي أدى ذلك الى بداية تعمق الابار لكن في السنوات الأخيرة مع التطورات العلمية والتقنية تم استعمال آبار أو أثقاب مائية بواسطة الآلة يتجاوز عمق بعضها 200 متر بتافيلالت عوض الآبار اليدوية التي لا تتجاوز في غالبيتها 18 إلى 30 متر. وتجهيز الضيعات الفلاحية الكبرى بأحواض تشغل مساحة تتجاوز الهكتارين في منطقة بوذنيب مزودة بالطاقة الشمسية. 
 
أمام هذا الوضع الملتبس، ما المطلوب فعله من أجل استعادة هذه الواحات لوهجها حتى تخدم تنمية الإنسان والمجال؟
المطلوب اليوم قبل الغد وبشكل آني ومستعجل هو اعتبار الواحة قضية وطنية، وذلك بالترافع عليها وتشكيل كتلة بغرض ذلك(منتخبين بمختلف المؤسسات الدستورية، برلمان، مجالس جهوية، اقليمية، جماعات ترابية، فعاليات المجتمع المدني، منظمات دولية ...)  من  أجل العمل الجماعي للاستعادة الواحات إلى الواجهة ، بالنسبة للواحات تحتاج الى استراتيجيات  بعيدة المدى تتماشى مع أهداف التنمية المستدامة  وبذل مجهودات كبيرة عن طريق تنزيل برامج تمس مختلف أزمات الواحات المغربية بمشاريع متكاملة تستحضر مبادئ التنمية المستدامة وتنزيل حقيقي تشاوري تشاركية يضم مختلف فئات المجتمع ومؤسسات الدولة (تبني المقاربة التشاركية ومقاربة النوع وتجاوز المقاربة القطاعية)، وكذا جعل الواحات ذات مكانة وجاذبية عبر خلق سياحة إيكولوجية على غرارة ما تعرفه منطقة مرزوكة ومحاميد الغزلان واستعادة مهن الواحة التي باتت في حكم الماضي ثم رد الاعتبار إلى العمارة الواحية هنا الحديث عن القصور (القصور السلطانية بتافيلالت قصر الخربات بفركلة قصر اكلميمن بغريس...) و القصبات ( قصبة أيت بن حدو بورزازات قصبة امريديل بسكورة...) كل هذا من شأنه أن يعيد البريق و التوهج للمجالات الواحية الغنية بتراثها الثقافي والشفهي المادي واللامادي.
 
أقرت الحكومة المغربية برنامجا زراعة النخيل. هل كانت له انعكاسات على الواحات أم كان مناسبة لتسمين وتعليف كبار الفلاحين والشركات الفلاحية التي رأت فيه فرصة و"همزة" مالية لمراكمة الملايير على حساب تحسين وتجويد عيش الساكنة المحلية؟.
بالنسبة لإقرار الحكومة المغربية برنامج زراعة النخيل، تعتبر برامج زراعة النخيل بالمغرب مشاريع طموحة من أجل الزيادة في الانتاج وتنمية مناطق الواحات لكن في الحقيقة هذه المشاريع المتعلقة بالمجالات الواحية هي مشاريع استنزافية وذات خطورة على المحيط البيئي فكيف يعقل أن يستفيد المقاولين وكبار الأثرياء من أراضي الجموع ويبقى ذوي الحقوق في خبر كان، ويقومون بزراعة النخيل خصوصا الأصناف المرتفعة الثمن (المجهول بوفقوس...) التي تحتاج مياه طوال السنة ،هذه الاستثمارات التي حصدها الخواص من ميزانية الدولة جاءت على حساب الفلاح البسيط من مختلف الجوانب فعلى سبيل المثال فإن تراجع الواحة التقليدية رغم تعدد أسبابه، لكن تعميق الآبار في الضيعات الحديثة جعل مياه أبارها تنضب، ومن جهة أخرى بات الفلاح المفقر لا يستطيع ولوج الأسواق لبيع منتوجاته أو مسايرة متطلبات فلاحته نظرا لصعوبة ولوج هذه الفئات للدعم عكس أصحاب الضيعات الكبرى، فعلى سبيل المثال رغم أننا سنتحدث عن مزروعات أخرى غير النخيل فزراعة الدلاح بمناطق الواحات أخل بالنظام البيئي فهو فاكهة مستنزفة للماء في وسط قاحل وليس هناك حزم من أجل الحد من هذه الفلاحة. زيادة على أنه السبب المباشر في أزمة العطش التي تعيشها زاكورة والمناطق المحيطة بها ويكفي هنا أن نشير إلى أن الساكنة تنقطع عليها مياه الشرب ويتم تزويدها عبر صهاريج مخصصة لذلك.
 
ومن خلال تناول هذا الموضوع جدير بالذكر أن المملكة المغربية الشريفة قامت باستثمارات لتنمية سلسلة النخيل لكن النتيجة الحتمية التي لا مفر منها هو ارتفاع أسعار المنتجات المحلية من ثمار النخيل من جهة، وتوجه المواطن المغربي عامة وساكنة الواحات خاصة الى ثمار دول الجوار الجغرافي لسد العجز الحاصل، حيث أن الأسواق المغربية تعتبر رواجا منقطع النظير لثمور( مصر، ليبيا، تونس، الامارات...) حتى بات المغرب ثاني أكبر  مستورد لها في العالم، وفقا لتقرير نشرته، أواخر أكتوبر 2023، منصة East fruit المتخصصة في سوق الخضروات والفواكه في العالم، في الأخير وجب طرح سؤال بالخط العريض "أي فلاحة نريد وأي وجهة نحن نسير إليها"؟.