ما زالت الواحات المغربية تتعرض، منذ أكثر من عقدين، إلى تدمير لافت ومثير للحنق على مستوى البيئة والإنسان، وهو التدمير الذي يقوم على أكتاف "الجفاف الاصطناعي"، واستنزاف المياه الجوفية، مما أدى إلى تقلص المساحة الإجمالية للواحات من 150.000 إلى حوالي 44.000 هكتار، وانخفاض معدل إنتاج التمور بما يفوق 34%، فضلا عن تراجع مستوى معيشة السكان، مع ما يستتبع ذلك من هجرة وترحال، بحثا عن آفاق أرحب.
غير أن أصابع الاتهام ظلت تقفز على «العامل الاصطناعي» المسؤول الرئيس عن هذا التدهور، وتشير فقط إلى أن عاملين اثنين؛ الأول طبيعي ويتعلق بـ «التغيرات المناخية» وتأثيراتها على المجال الفلاحي؛ والثاني بشري، ويتعلق بإهمال الإنسان لهذه الواحات، على الرغم من إدماجها، منذ 1987، في «الشبكة العالمية للمحميات الحيوية»، من طرف منظمة اليونيسكو.
صحيح أنه يجب أن نتوقف قليلا أمام التهديد الذي تشكله التغيرات المناخية، من قبيل التصحر الذي يرتبط بالتعرية الريحية، وزحف الرمال، وندرة المياه وملوحتها إلى جانب تدهور التربة، غير أن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه بقوة هنا، هو: ما هي العوامل الحقيقية الحاسمة التي تقضي على النشاط الطبيعي للنخيل، خاصة إذا كنا نعلم أن التغيرات المناخية ليست حكرا على المغرب أو أي بلد بعينه، وأنها معطى عالمي تتعامل معه مجموعة من الدول، التي تعيش الوضع نفسه، بكل حنكة واقتدار وعقلانية؟ هل الطبيعة هي المسؤول الأول عن الخراب الذي أصبح يخيم على الواحات.
لقد سبق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وهو يثمن اقتصاد الواحات، أن دق ناقوس الخطر حول التهديد الذي طال هذا الشريط الواحي، من حيث الندرة المائية والأمن المائي، والاستغلال المفرط للموارد المائية. إذ يمثل هذا الشريط حوالي 15% من مساحة المغرب «من فيجيج إلى حدود أسا-الزاك»؛ وهي مساحة شاسعة؛ فضلا عن كونه مجالا ترابيا يقطنه حوالي مليونين ونصف (2.500.000 نسمة) تقريبا، أي حوالي 4% من سكان المغرب. وهذا الشريط الواحي هو ما ميز المغرب عبر قرون:
أولا: على مستوى الرأسمال المادي المتمثل في كون المغرب كان منبتا لتصدير التمور إلى العالم «المجهول، الفقوس، أزيزة، بوسليخن، ترزاوة، بوسكري..إلخ»، فإذا به أصبح مستوردا لها من تونس ومصر الجزائر وفلسطين وأمريكا وإسرائيل والإمارات (في عام 2022، بلغ حجم الواردات من التمور 109 ألف طن بقيمة 213 مليون دولار، أي أكثر من 31 في المائة من إجمالي إنفاق المغرب على واردات الفواكه والخضروات).
ثانيا: على مستوى الرأسمال اللامادي المتمثل في ما أنتجته لنا الواحات من ثقافة شفهية أو لباس أو عادات.. إلخ، إضافة إلى مساهمتها في إغناء للأرض وتثبيت البشر عليها، فضلا عن دورها الكبير في وقف التصحر. وهو ما يبرز مقوماتها ومؤهلاتها في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعمرانية والبيئية والفنية.
وإذا كانت الواحات ثروة وطنية، وهذا لا يختلف حوله اثنان، فإنها ابتليت - للأسف الشديد - بحكومات متعاقبة تمتلئ برامجها بالفساد والجشع واحتقار المجال، إذ أصبح هذا الشريط يتعرض كل سنة إلى اغتيال مادي ورمزي، يتجلى أساسا في إخراجه من «الردار الحكومي» وإهمال تنميته والعناية بها، وبساكنته، وبمتطلبات العيش به، واحترام طبيعة منتوجه، وتقاليده المائية والفلاحية. ذلك أن المنطقة تعرف إهمالا كبيرا على المستوى الفلاحي، وعلى مستوى صيانة التراث المعماري «القصور»، وأيضا على مستوى العادات والتقاليد التي ينبغي حمايتها وترصيدها وتحصينها من «قراصنة الشرق» الواقعين في غرام «الثقافة المغربية» «الجزائر».
ويتجلى هذا الإهمال الحكومي، بشكل كبير، في عدم برمجة مجموعة من المشاريع، ومنها الاستمرار في عمليات التشجير وغرس فسائل النخل بمختلف الواحات، وتحسين الإنتاج الفلاحي وربط الواحات بالتشغيل، وربط تنمية هذا الموروث بالاقتصاد الأخضر من جهة والاقتصاد الاجتماعي التضامني من جهة ثانية، مع ما يترتب عن ذلك من تزويد للمنطقة الواحية بمشاريع السقي، إن على مستوى تحلية مياه البحر، أو على مستوى إعادة تدوير المياه العادمة، وتطوير المنشآت المائية.. إلخ، أو على الأقل عدم تحويل مياه السدود «أكدز بدرعة، وقدوسة بالرشيدية» إلى ضيعات الفلاحين الكبار، أو إلى ضيعات الشركات الفلاحية الكبرى، فضلا عن تعبئة الموارد المائية من خلال استمرار الإنجازات الهيدروفلاحية لمدارات السقي الصغير والمتوسط بالواحات عبر استصلاح شبكة الري «حوالي 775 كيلومترا من السواقي»، وتشييد 20 سدا تحويليا وترميم منابع المياه والخطارات «107 كيلومترات»، وصهاريج التخزين.
فمن بين أكبر الأسباب التي أدت إلى الكارثة التي تعيشها الواحات حاليا هو سوء التصرف في المياه المتوفرة، وليس كما يقول الفاشلون الذين يرجعون ما حل بالواحات إلى ثقل الجفاف والتغيرات المناخية والانحباس الحراري، وكأن دولا مثل الأردن والجزائر وتونس ونامبييا والمكسيك وإسرائيل وأمريكا، ليس بها جفاف ولا تعاني من التغيرات المناخية. فلماذا فقط المغرب هو الذي كلما وصلته نيران الانتقاد يرد الأسباب إلى العوامل الطبيعية، وينسى أن السياسة المائية التي تنهجها الحكومات، والتي تفترض القيام بتدابير استعجالية من شأنها معالجة مشكل الخصاص في الماء تفتقد إلى النجاعة. ذلك أنه، وعلى الرغم سعي الحكومات (على مستوى الشعارات) إلى تحقيق الأمن المائي وتطوير السقي، عبر سياسة بناء السدود، وإطلاق برامج كبرى لتطوير قطاع الفلاحة، فإن هذه السياسة لم ترخي بثقلها على الشريط الواحي.
وإذا أمعنا النظر في ما يجري على الأرض، سنقف على أن السبب الرئيسي للكارثة التي حلت بالواحات، هو السياسات الفاشلة والجهل الراسخ والجشع المركب بالدرجة الأولى، لأن المسؤولين الحكوميين استغلوا هذا الشريط الواحي ليس لتنمية الفلاحة المعاشية، وتحسين جودة عيش السكان المحليين، بل لتنمية الأرصدة البنكية لبعض «الانتهازيين» الكبار الذين لا يمتون للواحات بأي صلة، رغم أن الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأركان أنشئت وتم تسويقها لإيهام الرأي العام المغربي بأنها تستهدف تنمية القدرات الاقتصادية والاجتماعية للفلاحين المحللين وسكان الواحات، لتحسين أوضاعهم ومستوى معيشتهم. غير أن واقع الحال يكشف أن هذه الوكالة «انحرفت» عن أهدافها، وصارت تبذل قصارى جهدها لإنعاش الشركات الكبرى وتسمين رقم معاملاتها. والدليل على ذلك هو البرنامج الذي عرفته منطقة الراشيدية، خاصة في شريط بودنيب وشريط أرفود، حيث تم إحداث آلاف الضيعات الكبرى التي تمتد على مرمى البصر، وهي ضيعات في ملكية كبار الشخصيات في البلاد «الشخصيات نفسها التي تهافتت على سوق العقار، ولهفت سوق التأمين، وترامت على سوق الزيتون ولهفت سوق الطماطم،.. إلخ، وها هي تتهافت تهافتت على على سوق النخيل والواحات الجديدة». لماذا؟ لأنه تبين لها أن تمر المجهول، وهو تمر مغربي أصيل ذو جودة عالية وذو قيمة مضافة من الناحية المالية، «همزة» سقطت بين أيديهم، ولا بد من استغلالها، على حساب البيئة والناس والمجال، ضدا على الغرض الذي أسست من أجله الوكالة. وعليه، فإن بوسعنا أن نطلق على «وكالة تنمية الواحات» اسم آخر هو «الوكالة الوطنية لتنمية المجهول لفائدة الشركات الكبرى والفلاحين الكبار»، فهو الاسم الذي يصدق عليها ويليق بها، ما دام اصحاب الشركات والضيعات يعيدون إنتاج الهشاشة بين الفلاحين ويستمرون في نهج اللامساواة في الوصول إلى الموارد المائية. ذلك أن تنامي الزراعة التسويقية الحديثة، مثل زراعة التمور من نوع «المجهول» وزراعة الدلاح «البطيخ الأحمر» أصبحت تهدد الزراعة المعيشية البسيطة للفلاحيين الصغار بالواحات، وتساهم في تفاقم وضعيتهم السوسيو-اقتصادية، خاصة مع تراجع النشاط السياحي بالمنطقة، الأمر الذي أدى إلى تسارع وتيرة الهجرة وارتفاع معدلاتها، ذلك أن «الإنسان الواحي»، الذي كان قد طور أشكال مقاومة للطبيعة الواحية وخصوصياتها، أرغم على البحث عن مصادر عيش أخرى خارج الواحات، إذ كيف له أن يتحمل قساوة ظروفه والصبر على وضعه الذي يفتقد لأبسط شروط العيش، وعلى الأرض التي جفت وتعرضت كل أركانها للتصحر؟
إن ما يقع على الأرض يتنافى مع سياسات واستراتيجيات تنمية الواحات. كما يتناقض الخطاب مع الممارسة. فالخطاب يكشف وعي الدولة بمخاطر التدخل البشري البشع، غير أنها فتحت الباب على مصراعيه للانتهازيين وطالبي الربح على حساب التنمية المحلية. وهذا يطرح جملة من الأسئلة: هل خراب الواحات واستنزاف الموارد المائية يستقيم مع أهداف الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأرݣان في جعل الواحات مناطق فلاحية قوية؟ هل تهجير الفلاحين المحليين يعني «تثمين الموروث الطبيعي والإنساني وتوظيفه لتحسين المستوى المعيشي للساكنة»؟ هل القضاء على «القصور» يدخل في نطاق «الحد من ظاهرتي الفقر والهشاشة والفوارق المجالية»؟ هل يستقيم العطش مع إنتاج الدلاح؟ هل تحقيق الأرباح وتراكم الأموال ياوافق مع التنوع البيولوجي والطبيعي؟
لا شك أن الواحات تشكل درعا طبيعيا للتصحر، ولا شك أنها تمثل غنى ثقافيا وعمرانيا، ولا شك أنها تتمتع بموارد طبيعية وثقافية واقتصادية مهمة، ولا شك أن «المجهول» ثروة وطنية». لكن التحدي الأكبر هو بناء حاجز حقيقي بين الجشع الاستثماري الذي ترعاه الفئة المتنفذة في البلاد وبين حاجة السكان محليين إلى سياسة وطنية لا تجامل ولا تحابي ولا تضع نفسها رهن إشارة المال على حساب البيئة والإنسان.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"