الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

الشرقاوي الروداني: الانتخابات في جنوب إفريقيا بين صراع الأحزاب وتطلعات التغيير

الشرقاوي الروداني: الانتخابات في جنوب إفريقيا بين صراع الأحزاب وتطلعات التغيير الشرقاوي الروداني
تعتبر الانتخابات التي تجري في جنوب إفريقيا مرحلة مفصلية في تاريخ المشهد السياسي للمرة الأولى منذ انتهاء نظام الفصل العنصري قبل 30 عامًا. كل استطلاعات الرأي تتوقع أن تكون هذه انتخابات المقرر إجراؤها في جنوب أفريقيا في التاسع والعشرين من هذا الشهر مرحلة انتقالية ستأشر على تغيير الخارطة السياسية بيد أن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم قد لن يحصل على نسبة الـ50 في المائة اللازمة للحكم بمفرده و تكوين أغلبية مريحة، ما يجعل هذه الانتخابات تاريخية بكل ما تحمل الكلمة من معنى. في جو مشحون تتداخل فيه ما هو اجتماعي وسياسي واقتصادي، يعيش المشهد السياسي الجنوب أفريقي تحولات وتقلبات كتلك لم تسلم منها دول افريقية عديدة. على المستوى الداخلي، تبقى تحديات المرحلة تتعلق بقضايا معيشية اقتصادية كمشاكل انقطاع التيار الكهربائي المستمر، ومعدلات البطالة القياسية، والجريمة، ونقص المياه والتي يمكن اعتبارها اهم المحاور الرئيسية في الانتخابات إلى جانب الأجانب.
لكن تبقى الخدمات التي عجز حزب المؤتمر الوطني الأفريقي عن توفيرها حسب العديد من الناخبين أحد العوامل المؤثرة في إضعاف الحزب الحاكم. المتتبع للشأن الداخلي في هذا البلد الأفريقي يمكن ان يلمس بأن أحد القضايا التي عجز حزب المؤتمر الوطني الافريقي عن حلها هي أكبر من مشاكل النقل والكهرباء وغيرها. فمند سنوات تأسست مجموعة من جمعيات المجتمع المدني والتي أصبحت تطالب بمحاربة الفساد الذي أصبح ينخر جميع مناحي الحياة والمؤسسات الحكومية.
ففترة ولاية الرئيس سيريل رامافوسا، التي علقت عليها آمال كثيرة، لم تستطع تحريك المياه الراكدة و مستنقع الفساد اصبح بعمق بنيوي. فالرئيس الحالي لم ينجح في محو إرث الفساد الذي طال حزبه في عهد الرئيس السابق جاكوب زوما كما أن زواج المصالح بين النخب الاقتصادية والسياسية لم يعد سراً على أحد بحيث ان الصحف المستقلة لا يخلو اعدادها يوماً دون اثارةِ قضيةٍ أو خبر في الموضوع. في هذا الصدد، قدم تحقيق قضائي سنة 2022 تفاصيل واسعة حول نهب خزائن الدولة في عهد زوما، وخلص التقرير إلى أن رامافوسا لم يقم بمجهود كبير لبذل لمنع الفساد عندما كان نائبا لزوما بين عامي 2014 و2018.
هذا الأمر تراه بعض القوى السياسية الأخرى كتواطئ من الرئيس والحزب الحاكم في طمس بعض ملفات الفساد. في هذا الاتجاه كانت هناك فقرة معبرة في التحقيق القضائي والتي جاء فيها: "كان هناك بالتأكيد ما يكفي من المعلومات الموثوقة المتاحة للعامة... لدفعه على الأقل إلى التحقيق وربما التصرف بشأن عدد من الادعاءات الخطيرة". غير ان الأمر الذي رفع من سقف مطامح المعارضة هي فضيحة "بوابة المزرعة" الخاصة برامافوسا، والتي حسب الصحف المحلية تتعلق بسرقة مزعومة وأموال غير معلنة.
في بلد يعتبر من بين الاقتصاديات الأفريقية الجد النشطة، لم تتراوح البطالة نسبها المقلقة بحيث ان الـمعدل الحالي هو حوالي 32 بالمئة كما ان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي انخفض من 8800 دولار في عام 2012 إلى 6190 دولارًا في عام 2023، وهو نفس المستوى الذي كان عليه في عام 2005 تقريبًا.
في نفس السياق، يعتمد 47% من سكان جنوب إفريقيا على الرعاية الاجتماعية التي تقدمها الدولة وهو ـمر أصبح يطرح عدة أسئلة خاصة بعد التوجهات السياسية الداخلية داخل الحزب الحاكم التي غدت تنادي بسن قوانين تسمح بالخصخصة.
أمام هذه التحديات الظاهرة يبقى التحالف الديمقراطي من يمين الوسط بقيادة جون ستينهاوزن، والذي يبقى أكبر حزب معارض، قادراً على تغيير المشهد السياسي من خلال تحقيق مكاسب كبيرة في هذه الانتخابات. للإشارة، فالتحالف الديمقراطي أبان على قدرة كبيرة في التسيير والتدبير سيما وأنه يتولى مقاطعة كيب الغربية وعاصمتها كيب تاون منذ عام 2009، وهي المقاطعة الوحيدة التي لا تخضع لسيطرة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي.
ومما يجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للحزب الحاكم هو ما تجلى في استنتاجات دراسة استقصائية حديثة والتي أكدت أن حوالي ثلث سكان جنوب أفريقيا يعتقدون أن كيب الغربية هي أفضل المقاطعات حكمًا. لكن هناك تحدي أم تحالف المعارضة والذي يتجلى في رؤية الحزب من طرف الناخبين.
فعلى نطاق واسع يرى البعض على أنه يمثل مصالح الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا وأنه يسلب الرصيد التاريخي الأفريقية كمذهب وايديولوجية طبعت أجيالاً مند الأب المؤسس مانديلا.
للإشارة، فقد تم انتخاب أول زعيم أسود للحزب الديمقراطي، مموسي ميمان، في عام 2015، لكنه استقال بعد أربع سنوات فقط، وفي ظل قيادة بيضاء بالكامل حاليًا، تشير استطلاعات الرأي إلى أن الحزب سيحقق 22% فقط من إجمالي الأصوات.
من بين مآخذ البعض على الحزب المعارض تتجلى في تجاهل ستينهاوزن قضية عدم المساواة العرقية في جنوب أفريقيا يعارض الحصص العرقية في مكان العمل -التي قدمها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي -وتعهد بخلق فرص عمل جديدة، وإنهاء انقطاع التيار الكهربائي من خلال المزيد من الخصخصة، وجعل النقابات العمالية تدفع وديعة قبل أن تتمكن من الإضراب.
على المستوى الدولي، هناك اختلاف بين الوحدتين السياسيتين فيما يخص جوهر عدة قضايا سياسية دولية. فالتحالف الديمقراطي اظهر دعماً لإسرائيل، وهو موقف للإشارة لا يحظى بشعبية واسعة داخل جنوب أفريقيا هذا الأمر قد يكلف التحالف أصواتًا في وقت حاز فيه موقف بريتوريا المؤيد للفلسطينيين على إشادة دولية. بالمقابل، تعهد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بتكثيف الدعوات لمقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات عليها على المستوى الدولي.
في نفس الوقت، ولكي يبرز قوته لم يتوانى الحزب الحاكم باللعب بورقة البريكس ودور جنوب إفريقيا في المجموعة من خلال إبراز تشجيع للاستثمار والتجارة الدولية وتوفير توازن ضد الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
في خطوةٍ استباقية، وأمام إدراكه أنه لن يستطيع حصد ارقام تجعله يتزعم المشهد السياسي، قام التحالف الديمقراطي بتشكيل اتفاق مع عشرة أحزاب معارضة أصغر، ولم يستبعد تشكيل ائتلاف مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في حالة تكسير قاعدة الهيمنة التاريخية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي.
ولكن لعدة عوامل تاريخيّة وسياسية فحتى وان فقد الحزب الحاكم أغلبيته العامة لكنه سيظل يحافظ على قبضته على السياسة في جنوب أفريقيا.
لعبة السلطة في هذا البلد تبقى جد صعبة وكل السيناريوهات مفتوحة خاصة مع وجود أكثر من 70 حزبًا في صناديق الاقتراع على المستوى الوطني والإقليمي؛ ولكن كما كتب سازي بونجوي في كتابه "أفريقيا دولة"، فإن "الأحزاب الصغيرة ذات الخطط الكبيرة هي كثيرة" ومع ذلك "فغياب بديل سياسي ذي مصداقية للحزب الحاكم" جعل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي يُشير إلى وقوع الأغلبية السوداء الفقيرة في شرك الوضع الراهن. غير ان وجود حزب “المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية" المعارض والذي من المنتظر ان يحصل على نسبة 10% من المقاعد البرلمانية قد يمارس ضغطاً هذا التوجه الذي يميل الى كسب ثقة الطبقة الفقيرة.
في النهاية، البرغماتية السياسية قد تحافظ على نسقها ولو ان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، إذا سقط إلى ما دون عتبة 50 في المائة، فمن المرجح أن يتطلع إلى الشراكة مع حزب أصغر من يسار الوسط، مثل رايز مزانسي بقيادة رئيسه سونجيزو زيبي، الذي وعد بتحسين الرعاية الصحية والتعليم. وإذا تمكن من تشكيل ائتلاف دون تقديم تنازلات كبيرة لمنافسيه، فقد يخرج حزب المؤتمر الوطني الأفريقي من هذه الانتخابات كفائز ولو بندوب المعركة.
هذه الندوب وامام الضغط السياسي والتحديات الاقتصادية والاجتماعية قد تكون مكلفة في السنوات المقبلة وقد تكون هذه الانتخابات بدايةً للصفحةٍ جديدةٍ للعبة السياسية في جنوب افريقيا.