الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

احمد نور الدين: معرض الكتاب في ظل التحولات الرقمية..

احمد نور الدين: معرض الكتاب في ظل التحولات الرقمية.. احمد نور الدين
الزائر لمعرض الكتاب الدولي بالرباط، لا يمكنه إلا أن يُسرّ لجحافل الزُوار الذين يقصدونه من كل الأعمار ومن كلّ الجهات، وستغمره السعادة أكثر بأعداد الفتيان والفتيات الذين يرتادون هذا الفضاء الثقافي وينفخون فيه من روح العنفوان والأمل في مستقبل أفضل للقراءة في بلادنا، نتجاوز فيه عتبة رُبع ساعة كمتوسط سنوي للقراءة لدى الأطفال كما تقول بعض الإحصاءات.     
 
كما أنّه لا يمكن للزائر إلاّ أن يغتبط بالكمّ المعتبر للنّدوات واللّقاءات التي تدور رحاها حول ثيمات ثقافية وأدبية وأخرى سياسية واقتصادية واجتماعية، وتستحضر مسارات مبدعين ومفكرين ومؤلفين وشعراء وكتاب، مما يُحول المعرض إلى مهرجان ثقافي أو جامعة مفتوحة يتلقى فيها الزائر المواظب تكويناً مكثفاً في حقول معرفية متعددة ومتنوعة.
ولعلّ من أبرز معالم المعرض تلك المواعيد التي تجمع الجمهور بالكتّاب والمبدعين في لحظة انتشاء ثقافي يختلط فيها الوجدان بالفكر، ويمتزج فيها التعارف الافتراضي بالمصافحة المحسوسة والعناق الحارّ، ويُستعاض فيها بالمسامرة الحضورية بين الكاتب والقارئ عن المحاورة عن بُعد أثناء ممارسة فعل القراءة.
 
وفي عصرنا الرّقمي الذي نعيشه، محكوم علينا أن نتساءل عن مستقبل المعرض كما هو محكوم على الكِتاب الورقي بالإختفاء القسري والتدريجي. وأعتقد أنّ معرض الكتاب في صيغته الكلاسيكية سائر هو الآخر نحو الإضمحلال ليترك مكانه للنسخة المتحوّرة منه، والتي أزعم أنّ حلقات النقاش الثقافي والحوار الإبداعي والمناظرات الفكرية والمعارضات الشعرية والتواصل غير الافتراضي بين المبدعين وجمهورهم ستحتل فيه المكانة الأبرز.
 
فالقارئ لم يعد ينتظر المعرض السنوي ليتعرّف على ما استجدّ في عالم الثقافة والمعرفة، ولا لِيشتري أيّ مؤلف بعد أن أصبح ذلك متاحاً في بضع نقرات على جهازه المحمول من أي مكتبة شاء عبر العالم، ولكنه لن يستغني أبداً عن اللقاء الحيّ المباشر مع الكاتب والمبدع الذي لن تعوّضه لا اللقاءات الإفتراضية ولا التناظر عن بعد. فالإنسان كائن اجتماعي سيظل يحن ويسعى إلى الإجتماع مع من يشاطره الفكر والمعرفة والإبداع، وستظلّ الروح المعرفية متعطشة ومتحفزة إلى ملاقاة أشباهها.
 
الكتاب الورقي آيل للانقراض وبأسرع مما نتوقع، وهذا ليس غريباً في حدّ ذاته فقد انقرضت قبله الكتب المخطوطة والمنسوخة باليد كما انقرضت المطابع الحجرية. والكتاب سيغيّر هويته بالكامل ليصبح رقمياً، وقد يُعجل الذكاء الاصطناعي ما بدأ فعلاً منذ سنوات طويلة، وهذا يستدعي من الوزارة الوصية التفكير بشكل استباقي في الأشكال التي يمكن أن يتخذها المعرض الدولي للكتاب في المستقبل القريب.
 
فقد يتخذ المعرض شكل صالات للسينما ذات ألواح تفاعلية ضخمة وربما ثلاثية الأبعاد، وقد يعوض التوقيع الرقمي للكتب جلسات توقيع المؤلفين لكتبهم، وغير ذلك من التغيرات المفترضة والافتراضية في آن واحد، وما على الجهة المعنية إلاّ أن تجري مباريات لجمع الأفكار الخلاقة، أو تدعو لمناظرة وطنية بين المثقفين والمبدعين وأرباب دور النشر وكل الفاعلين في الصناعة الثقافية والرقمية، مما قد يعطي لمعرض الرباط قصب السبق في هذا المضمار.
 
وكيفما كان شكل المعرض المستقبلي، فإنّنا لن نستغني عن وظيفته كمهرجان ثقافي أو "أﮔورا" معرفية تحتضن المثقفين بكلّ أطيافهم، وتفسح المجال من أجل الإحتفاء بإبداعاتهم وتكريمهم والغَرْف من مَعينهم والاحتكاك الفعلي وليس الافتراضي بهم، والانصات إليهم لتشريح المجتمع فكرياً وتقويم توجّهاته سياسياً، ولتشخيص نجاحاته وإخفاقاته اقتصادياً واجتماعياً، ومن ثمّ تلمّس المعالم والمسالك نحو الأفق المجتمعي الممكن على الأقل ثقافياً، خاصة وأننا نعيش فراغاً أو تجريفاً وأكاد أقول احتباساً في النقاش العمومي في بلدنا حول القضايا المجتمعية المصيرية بسبب انسحاب المثقف إرادياً أو تهميشه لفائدة فصيلة "المؤثرين" الذين اقتحموا معبد الكتاب وأصبح الوزراء يستقبلونهم عند بابه ويرافقونهم داخل أروقته../