تصدح تجربتنا التاريخية بغير قليل من خيبات أمل...تُذكرنا حوادث الزمن البائد بانكسار وجداننا الحضاري على مِقصف فوهات الغرب "الكافر"...يشهد حاضرنا على تصدع ذاكرة في مرايا منكسرة؛ راهن زمني يشهد على الانحطاط، ووعي خارج مدارك العقل والزمن، فهل الأزمة أزمة تاريخ؟ أم أزمة وعي به؟
فضاءاتنا العمومية لا مدنية بالتوصيق. هناك شرخ بين التاريخ والذاكرة...ينصرف الجميع بقصد نحو صناعة ذاكرة جماعية. يتلاعب السياسي بالذاكرة رغبة في فرض الهيمنة والتحكم ومنطق السردية الأحادية. نعلم بمقتضى التاريخيات المعاصرة أن الذاكرة بالأساس توافق، من أجل بناء الضابط الاجتماعي من وجهة نظر مدنية وليس من وجهة نظر خلاصية...يُلح ممتهنو التاريخ أن كتابة التاريخ يجب أن تتم بالوثائق، ومع الوثائق، وبمسافة من الروايات التي تُقدمها الوثائق لصياغة الحكاية. يرافع المؤرخ التونسي لطفي عيسى بالقول أن الوثيقة ليست أرشيفا، وليست خبرا، أو نصا فقهيا، وليست ترجمة، وليست خطابا سياسيا...هي بحر من الأجناس...صحيح أنها أصل التاريخ لكنها أيضا أرض زراعة الذاكرة...
من نوكل إليه مهمة كتابة هذا التاريخ؟ من نأتمنه على صياغة الشواهد وبناء الحكاية؟ إنه الرجل الذي يجب أن يشبه "الحداد"، الذي يشتغل على حديد بارد، يصهره، يطرقه، ليصنع شيئا. التاريخ من حيث التشكل صناعة تشتغل على شيء بارد، أو كما يقول المؤرخ عبد الله العروي "...لا يزيد عمل المؤرخ على تعليب الوقائع التاريخية". تعليب وتكييف شريطة ألا يتعارض مع حاجيات الراهن، بينما الذاكرة شيء مُندس يوميا في حياتنا، تخضع للبثر والتمطيط، للتضخيم والتقزيم...حسب تجاذبات اللحظة السياسية. علينا أن نؤمن بأن الماضي ليس هو التاريخ، فالماضي شيء أساسي بالنسبة للحاضر وللمستقبل، لكنه ليس هو التاريخ. لأنه يتميز بنظرة مخصوصة، وقابل للتبرير والشرعنة...
علينا أن نعيد صياغة مفهوم "الهوية" بالمدلول التاريخي، وأن نعيد حكي التاريخ، فمن "لا يملك الحكاية لا يملك أرض الحكاية" كما قال الشاعر محمود درويش...علينا أن نصنع تاريخنا، وأن نرفع القداسة على الفعل المدني، وأن نُعيد التفكير في مدلول الضابط الاجتماعي الذي تحدث عنه موريس هالفاكس في كتابه "الأطر الاجتماعية للذاكرة"، وأن نُعيد الاعتبار للروحي. لأننا نتموقع في الكوني من أجل فهم عميق للغيرية، من موقع المقاومة التي نواجه به الآخر، الغيرية الحميمية أي كل "ما يتصل بالفضاء الذي يرتبط بالحكاية"، والغيرية الغريبة أي "كل من طردناه من هذا الفضاء". فهل يسمح لنا موقعنا في الحقيقة اليوم أن نقارب التاريخ؟
تعليمنا أخلف الموعد مع التاريخ، وأدار ظهره للحداثة والتنوير، لربما أنتج قطاعات عريضة من البشر قادرة على "القراءة"، لكنها غير قادرة على تمييز ما يستحق القراءة، مُدرسونا يلقنون الجهل ويقتلون الحياة، مهندسونا يغشون في الأساس والدعامات، أطباؤنا لا يتعجلون في المستعجلات، قضاتنا يكيفون الحق وفق التسعيرات، فقهاؤنا أعلنوا الدين جلابيب وعباءات، وكتابنا صنعوا للظلم مسالك وممرات، ولائحة العبث طويلة، ماذا حدث للسلطة في هذه البلاد، وأقصد سلطة العقل والفكر...
نعيش أزمنة الابتذال الفكري، التدني الثقافي، التلاعب الإعلامي، تزييف الوعي، الكذب المتعمد، تشويه الحقائق، مداهنة صانعي القرار والنفوذ... لربما "قول المؤرخ لا يرضي إلا المؤرخ أو من له مزاج المؤرخ" كما قال العروي في استبانته. فالأشياء التي تظهر مجردة من الأصل ومرتجلة ولا إرادية، وأيضا الكلمات العفوية، تأتي كلها من بعيد، وتشهد على الصدى الطويل لأنساق التفكير كما يتأسس على ذلك درس جاك لوغوف.
نحيا اليوم حالة انسداد تاريخي، وتكلس حضاري، وانغلاق وجداني، مما يعدو معه سؤال التنوير أكثر إلحاحا حتى تتأتى لنا المشاركة في المتاح البشري، وندحض الاستثناء الذي يمشي بنا خارج مراكب الزمن، وهذه هي معضلة العالم الإسلامي اليوم، التي جعلته عاجزا عن تدبير إرثه التاريخي وفق حاجياته المتجددة، وأسئلته الزمنية، مع ما رافق ويرافق هذا الشرخ من قراءات عُصابية، بين قائل بالقطيعة، وبين مُتبن للانتقاء، وبين متحدث عن الاستعادة والنقد المزدوج وغيرها...لهذا السبب بالذات، فشلنا في مشروع التحديث من الداخل، فظلت الحداثة عندنا مرتبطة بالخارج، وبتجربتنا مع الاستعمار، فهل هذا الفشل مرده تحكم الأنظمة السلطوية من مَلكية، عسكرية، أوليغارشية، عشائرية...التي راهنت على إجهاض المشاريع التحديثية، وعملت على إحياء التقليد؟ أم إلى اكتشاف البترول الذي دَعَّم نماذج اقتصاد الريع، وأنتج إيديولوجيات منغلقة؟
يبدو لي أننا أضحينا في هذا البلد مثل أبطال في مسرحية "في انتظار غودو" للكاتب الشهير صامويل بكيت، وليس غودو في سياق مأساتنا غير قطار إقلاع البلاد الذي طال انتظاره، حتى أصبحنا نحن المغاربة كائنات انتظارية بامتياز، نُمني النفس بما قد يأتي وقد لا يأتي...وها هي سنة أخرى نودعها الوداع الأخير، تذكرنا أن بؤس واقعنا أكبر من أحلامنا الجميلة، لم نزرع غير الريح، فكان لزاما أن نحصد العاصفة...انتخابات على الأبواب قضت وستقضي بأن يكون مصير البلاد والعباد بين أيدي صناع العاهات...رياضة بمثابة مرآة عاكسة لتخلفنا المخجل والمخزي في آن...فقر سرطاني يعيد تشكيل الوطن إلى وطنين بينهما حجاب: وطن الغنى والبذخ والثراء حتى السفاهة، ووطن الفاقة والحاجة وقلة ذات اليد...حقوق مهضومة على مستوى الخطاب وزئبقية على مستوى الواقع...شباب في زهرة العمر، يبحر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، صباح مساء، بحثا عن نجومية "رحال لعوينة" في رائعة ياسين عدنان "هوت ماروك"...وها نحن على مشارف استحقاق جديد نجر خيباتنا وانكساراتنا، فهل سينبلج فجر جديد؟ أم أن قدرنا نحن بسطاء هذا البلد هو أن نبقى بشكل سيزيفي ننتظر غودو؟
حمامتنا المخلصة لم تحضر بعد، وأحفادنا من بعدنا ملزمون بانتظارها، فلا يمكن لبجعة أن تنجب سنجابا من سرعوف. هذا قانون الطبيعة، وهو بالبداهة يمشي وفق نسق واضح. فهل نختزل التاريخ في أشخاص؟ وما ذنب الاجيال إن لم تعش أو تحيا مع المهدي بن بركة وعلال الفاسي وآخرين؟ ألا يمكن أن نطرح القضايا التي تعتور مجتمعا في إطار قوالب فكرية، ومن خلال ظواهر اجتماعية؟ والأهم، هل نستطيع أن نتجاوز الحماية ومنظومتها؟ وهل تلتئم خيارات المغرب وما تمليه الجغرافيا؟
فضاءاتنا العمومية لا مدنية بالتوصيق. هناك شرخ بين التاريخ والذاكرة...ينصرف الجميع بقصد نحو صناعة ذاكرة جماعية. يتلاعب السياسي بالذاكرة رغبة في فرض الهيمنة والتحكم ومنطق السردية الأحادية. نعلم بمقتضى التاريخيات المعاصرة أن الذاكرة بالأساس توافق، من أجل بناء الضابط الاجتماعي من وجهة نظر مدنية وليس من وجهة نظر خلاصية...يُلح ممتهنو التاريخ أن كتابة التاريخ يجب أن تتم بالوثائق، ومع الوثائق، وبمسافة من الروايات التي تُقدمها الوثائق لصياغة الحكاية. يرافع المؤرخ التونسي لطفي عيسى بالقول أن الوثيقة ليست أرشيفا، وليست خبرا، أو نصا فقهيا، وليست ترجمة، وليست خطابا سياسيا...هي بحر من الأجناس...صحيح أنها أصل التاريخ لكنها أيضا أرض زراعة الذاكرة...
من نوكل إليه مهمة كتابة هذا التاريخ؟ من نأتمنه على صياغة الشواهد وبناء الحكاية؟ إنه الرجل الذي يجب أن يشبه "الحداد"، الذي يشتغل على حديد بارد، يصهره، يطرقه، ليصنع شيئا. التاريخ من حيث التشكل صناعة تشتغل على شيء بارد، أو كما يقول المؤرخ عبد الله العروي "...لا يزيد عمل المؤرخ على تعليب الوقائع التاريخية". تعليب وتكييف شريطة ألا يتعارض مع حاجيات الراهن، بينما الذاكرة شيء مُندس يوميا في حياتنا، تخضع للبثر والتمطيط، للتضخيم والتقزيم...حسب تجاذبات اللحظة السياسية. علينا أن نؤمن بأن الماضي ليس هو التاريخ، فالماضي شيء أساسي بالنسبة للحاضر وللمستقبل، لكنه ليس هو التاريخ. لأنه يتميز بنظرة مخصوصة، وقابل للتبرير والشرعنة...
علينا أن نعيد صياغة مفهوم "الهوية" بالمدلول التاريخي، وأن نعيد حكي التاريخ، فمن "لا يملك الحكاية لا يملك أرض الحكاية" كما قال الشاعر محمود درويش...علينا أن نصنع تاريخنا، وأن نرفع القداسة على الفعل المدني، وأن نُعيد التفكير في مدلول الضابط الاجتماعي الذي تحدث عنه موريس هالفاكس في كتابه "الأطر الاجتماعية للذاكرة"، وأن نُعيد الاعتبار للروحي. لأننا نتموقع في الكوني من أجل فهم عميق للغيرية، من موقع المقاومة التي نواجه به الآخر، الغيرية الحميمية أي كل "ما يتصل بالفضاء الذي يرتبط بالحكاية"، والغيرية الغريبة أي "كل من طردناه من هذا الفضاء". فهل يسمح لنا موقعنا في الحقيقة اليوم أن نقارب التاريخ؟
تعليمنا أخلف الموعد مع التاريخ، وأدار ظهره للحداثة والتنوير، لربما أنتج قطاعات عريضة من البشر قادرة على "القراءة"، لكنها غير قادرة على تمييز ما يستحق القراءة، مُدرسونا يلقنون الجهل ويقتلون الحياة، مهندسونا يغشون في الأساس والدعامات، أطباؤنا لا يتعجلون في المستعجلات، قضاتنا يكيفون الحق وفق التسعيرات، فقهاؤنا أعلنوا الدين جلابيب وعباءات، وكتابنا صنعوا للظلم مسالك وممرات، ولائحة العبث طويلة، ماذا حدث للسلطة في هذه البلاد، وأقصد سلطة العقل والفكر...
نعيش أزمنة الابتذال الفكري، التدني الثقافي، التلاعب الإعلامي، تزييف الوعي، الكذب المتعمد، تشويه الحقائق، مداهنة صانعي القرار والنفوذ... لربما "قول المؤرخ لا يرضي إلا المؤرخ أو من له مزاج المؤرخ" كما قال العروي في استبانته. فالأشياء التي تظهر مجردة من الأصل ومرتجلة ولا إرادية، وأيضا الكلمات العفوية، تأتي كلها من بعيد، وتشهد على الصدى الطويل لأنساق التفكير كما يتأسس على ذلك درس جاك لوغوف.
نحيا اليوم حالة انسداد تاريخي، وتكلس حضاري، وانغلاق وجداني، مما يعدو معه سؤال التنوير أكثر إلحاحا حتى تتأتى لنا المشاركة في المتاح البشري، وندحض الاستثناء الذي يمشي بنا خارج مراكب الزمن، وهذه هي معضلة العالم الإسلامي اليوم، التي جعلته عاجزا عن تدبير إرثه التاريخي وفق حاجياته المتجددة، وأسئلته الزمنية، مع ما رافق ويرافق هذا الشرخ من قراءات عُصابية، بين قائل بالقطيعة، وبين مُتبن للانتقاء، وبين متحدث عن الاستعادة والنقد المزدوج وغيرها...لهذا السبب بالذات، فشلنا في مشروع التحديث من الداخل، فظلت الحداثة عندنا مرتبطة بالخارج، وبتجربتنا مع الاستعمار، فهل هذا الفشل مرده تحكم الأنظمة السلطوية من مَلكية، عسكرية، أوليغارشية، عشائرية...التي راهنت على إجهاض المشاريع التحديثية، وعملت على إحياء التقليد؟ أم إلى اكتشاف البترول الذي دَعَّم نماذج اقتصاد الريع، وأنتج إيديولوجيات منغلقة؟
يبدو لي أننا أضحينا في هذا البلد مثل أبطال في مسرحية "في انتظار غودو" للكاتب الشهير صامويل بكيت، وليس غودو في سياق مأساتنا غير قطار إقلاع البلاد الذي طال انتظاره، حتى أصبحنا نحن المغاربة كائنات انتظارية بامتياز، نُمني النفس بما قد يأتي وقد لا يأتي...وها هي سنة أخرى نودعها الوداع الأخير، تذكرنا أن بؤس واقعنا أكبر من أحلامنا الجميلة، لم نزرع غير الريح، فكان لزاما أن نحصد العاصفة...انتخابات على الأبواب قضت وستقضي بأن يكون مصير البلاد والعباد بين أيدي صناع العاهات...رياضة بمثابة مرآة عاكسة لتخلفنا المخجل والمخزي في آن...فقر سرطاني يعيد تشكيل الوطن إلى وطنين بينهما حجاب: وطن الغنى والبذخ والثراء حتى السفاهة، ووطن الفاقة والحاجة وقلة ذات اليد...حقوق مهضومة على مستوى الخطاب وزئبقية على مستوى الواقع...شباب في زهرة العمر، يبحر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، صباح مساء، بحثا عن نجومية "رحال لعوينة" في رائعة ياسين عدنان "هوت ماروك"...وها نحن على مشارف استحقاق جديد نجر خيباتنا وانكساراتنا، فهل سينبلج فجر جديد؟ أم أن قدرنا نحن بسطاء هذا البلد هو أن نبقى بشكل سيزيفي ننتظر غودو؟
حمامتنا المخلصة لم تحضر بعد، وأحفادنا من بعدنا ملزمون بانتظارها، فلا يمكن لبجعة أن تنجب سنجابا من سرعوف. هذا قانون الطبيعة، وهو بالبداهة يمشي وفق نسق واضح. فهل نختزل التاريخ في أشخاص؟ وما ذنب الاجيال إن لم تعش أو تحيا مع المهدي بن بركة وعلال الفاسي وآخرين؟ ألا يمكن أن نطرح القضايا التي تعتور مجتمعا في إطار قوالب فكرية، ومن خلال ظواهر اجتماعية؟ والأهم، هل نستطيع أن نتجاوز الحماية ومنظومتها؟ وهل تلتئم خيارات المغرب وما تمليه الجغرافيا؟
الدكتور عبد الحكيم الزاوي، باحث وناقد