الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

فؤاد زويريق: حديث عن مسلسل "الحشاشين" المصري

فؤاد زويريق: حديث عن مسلسل "الحشاشين" المصري فؤاد زويريق
مازلت أتذكر سنة 2005 عندما عرض فيلم ''مملكة السماء'' للمخرج ريدلي سكوت وكيف تعرض لحملة انتقادات كبيرة من طرف المؤرخين الغربيين، ومهاجمتهم لمخرجه ووصفهم له بالمدلس والمزور... نفس الشيء أو بدرجة أقل فيلم دارين أرنوفسكي ''نوح'' الذي صدرت ضده فتاوى دينية في العالم الاسلامي. فيلم "الخروج: آلهة وملوك" لريدلي سكوت انتقد وهوجم أيضا وتعرض لحملات المقاطعة والمنع في الكثير من الدول الاسلامية، فكلما أنتج فيلم تاريخي أو مستوحى من أحداث تاريخية، تعرض صانعوه للانتقادات والهجوم، وفي الأخير يُعرض الفيلم ويستمتع جمهوره ويجني صانعوه أرباحا خيالية.
هناك حد فاصل بين التاريخ والفن السينمائي والدرامي، ولا يجوز الخلط بينهما، مخطئ من يظن أن باستطاعة التاريخ الاعتماد على الأفلام والمسلسلات لتحقيق المعرفة ونشر الحقائق التاريخية، لكن باستطاعة الفن السينمائي والدرامي الاعتماد على التاريخ لصناعة المتعة والترفيه، والاعتماد هنا ليس حرفيا أو كليا بل جزئيا حيث يختار من التاريخ مايراه مناسبا له دراميا مع إضافة بهارات تخيلية تخدم أحداثه وتجعلها قابلة للاستهلاك، إذاً فالحقائق التاريخية في الفن نسبية وتختلف باختلاف الرؤية الدرامية والفنية لصانع المحتوى. 
الحقائق التاريخية لا توجد سوى في المراجع والكتب والأبحاث الأكاديمية، وليس بالضرورة تواجدها في عمل سينمائي أو درامي، فالتاريخ علم، والسينما أو الدراما فن وترفيه وصناعة وتجارة تخضع للمنافسة ومتطلبات السوق. ومن السذاجة محاكمة عمل فني ما -سواء كانت هذه المحاكمة قانونية أو شعبية أو دينية- بتهمة التزوير وعدم التزامه بالحقائق التاريخية، فالمفروض ان الفن لا حدود تحده لأنه ببساطة يعتمد على الخيال، والخيال كما يعلم الجميع أوسع من الكون.
وهذا ماجرى لمسلسل الحشاشين الذي استوحى أحداثه من سرديات متعددة تهم شخصية اختلف حولها تاريخيا، بل هناك من يشكك في وجودها أصلا، الدراما أو السينما هي كالأدب، فهناك روايات استقت  من جماعة الحشاشين أحداثها، ووظفتها بما يتناسب وخطها السردي، ولا أحد طالب بحرقها أو تمزيقها لأنها زيفت التاريخ وحورته، مسلسل ''الحشاشين'' أو ''الحشاشون'' تكلم إبداعا وفنا بلسان تاريخي، ونأى عن نفسه الدخول في جدليات فلسفية وفكرية معمقة متداخلة مع المعارف الدينية لإيصال رسالة ما، فخطابه شفاف واضح وبسيط، وهذا يظهر جليا من خلال الحوار المتداول بين الشخصيات بما فيها العلماء، مما يفسر لنا أن الاهتمام الرئيسي لصناع العمل هو الصورة بكل أبعادها الفنية، المسلسل فيه اجتهاد فني واضح، رفعه الى مقام الدراما المتميزة ليس في هذا الموسم فقط، بل في تاريخ الدراما التاريخية المصرية، وأنا هنا أتكلم إبداعا وفنا، ومن هذه الناحية فالعمل يستحق المتابعة بما يمنحه لنا من متعة بصرية، يرافقها سرد متقن وسلس للأحداث دون ارتباك الى حد الآن، بسبب قوة السيناريو وحبكته المطروزة بعناية، هل أنا بهذا أرمي الورود؟ نعم أنا كذلك، لكن ليس اعتباطا ولا مجانا، بل لأن العمل -وبعيدا عن أي جدل بزنطي- يستحق فنيا وإبداعيا.
    
المسلسل لا يقدم لنا صورة بصرية بديعة فقط، ولا إخراجا محترفا متماهيا ومتناسقا مع قوة السيناريو، بل يقدم لنا أيضا طبقا متنوعا وممتعا من فن التشخيص، من خلال مشخصين موهوبين لهم ما يكفي من رصيد لدى جمهورهم، ككريم عبد العزيز، الذي أثبت منذ انطلاقته الأولى بأنه ليس ذاك الممثل الصدفة، الذي وجد نفسه فجأة داخل الوسط الفني بفضل أبيه المخرج محمد عبد العزيز، بل هو ذاك الشخص الذي اقتحم مجال التمثيل وهو كله طموح وإرادة لتحقيق الأفضل في كل عمل يشارك فيه، مشخص مكافح ومواظب ومداوم على صقل قدراته الفنية، وجعلها أكثر دينامية وليونة للتأقلم مع كل شخصية يؤديها، وهذا ما لمسناه مجددا في هذا العمل حيث يلبس عباءة التاريخ بكل يسر وسلاسة، وهناك أيضا الرائع والكبير فتحي عبدالوهاب الحربائي أو الجوكر القادر على ارتداء كل الألوان واللعب على كل الحبال مهما كان طولها وسمكها، فهو يتماهى وينصهر داخل كل نوع من أنواع التشخيص مهما كانت صعوباته وتعقيداته و تشعباته، وها نحن نراه متقمصا دور رجل دولة حقيقي، شخصية نظام الملك بما تشكله هذه الشخصية من كاريزما وسلطة مفعمة بالحكمة والمكر والثبات والنضج والوفاء... شخصية جامعة ومركبة أداها فتحي عبد الوهاب بعمق وتميز ملفتين، ولا يقف التشخيص القوي عند كريم عبد العزيز و فتحي عبدالوهاب فقط، بل العمل يزخر بممثلين آخرين استطاعوا أن يجعلوا من المسلسل حلبة مفتوحة للتنافس الجميل والممتع.
   
باختصار هذا العمل الدرامي هو في الأخير عمل فني ترفيهي، قد تتفق مع محتواه وقد تختلف، ويبقى لك الاختيار في مواصلة مشاهدته من عدمها أو البحث عما يروي عطشك، فالقنوات حاليا تعج بمئات الأعمال الدرامية، شخصيا أعتبره عملا دراميا محترفا في كل عناصره، وترمومترا يظهر مستوى صناعة الدراما في مصر، أما من أراد الوقوف على الحقيقة التاريخية فسبل المعرفة متعددة ومتنوعة وحتما لا الدراما ولا السينما منها.