ب ـ اتهام مذكرة المجلس بمخالفة "نصوص شرعية قطعية": لتبرير رفضه للمذكرة ومناهضة مقترحاتها، يلجا البيجيدي، كالعادة، إلى اتهامها "بمخالفة الشريعة": "كل هذه المقترحات مردودة ومرفوضة لأنها تخالف نصوصا شرعية قطعية وتعكس جهلا بنظام الإرث الإسلامي ".
إن البيجيدي يسمح لنفسه أن يتهم غيره بالجهل ومخالفة الشرع والتطاول على أحكامه وذلك ليسوّغ فرض وصايته على المجتمع والنطق باسم الدين واحتكار حقيقته. وفي هذا مخالفة للتعاليم الدينية وللدستور وللواقع. وما يتجاهله البيجيدي هو أن زمن النبوة والرسالة انتهى مع الرسول محمد (ص) خاتم الأنبياء والرسل. وبذلك لا يحق لأي كان أن يفرض فهمه للدين أو يعارض به غيره أو يكفّرهم على أساسه. فالقرآن حمّال أوجه، ويفسره زمانه، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، وأنه حيث توجد المصلحة فتم شرع الله. لهذا على بنكيران أن يعرف قدْره ولا يتطاول على غيره أو ينسب لنفسه أدوارا ليست له ولا هو أهل لها. فلا هو رسول سيبيّن لنا أمور ديننا، ولا هو وكيل عن الشعب المغربي حتى ينطق باسمه أو يقرر نيابة عنه. وإذا كان من شخص يجهل أحكام الشريعة فهو بنكيران وقيادة حزبه، ويمكن الاستدلال على هذا بالتالي:
بخصوص الوصية في نظام الإرث: فقد جعلها الله تعالى حقا لصاحب المال لفائدة الوالدين والأقربين قبل غيرهم (كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين). واضح من الآية أن الله تعالى شرع للمسلم أن يتصرف في ماله بأن يوصي بجزء غير محدد منه للأقربين من الورثة وغيرهم. فالوالدان يرثان بالفرْض، ورغم ذلك لم تحرمهما الآية من نصيبهما في الوصية. الأمر الذي ينفي صحة حديث الآحاد (لا وصية لوارث) الذي يتعارض مع نص قطعي الثبوت والدلالة. إذ الظني من الحديث لا ينسخ القطعي منه فكيف ينسخ القرآن وكله قطعي. واقتراح المجلس الوطني لحقوق الإنسان اعتماد الوصية في توزيع الإرث وحمايتها من الطعن أمام القضاء، هو اقتراح منسجم مع القرآن الكريم ومع أهم مقصد للشريعة وهو العدل، بينما حرمان الوارث منها هو ما يخالف الشرع والقرآن.
بخصوص قاعدة الردّ: التي تعني إعادة توزيع ما بقي من التركة بعد أن يأخذ أصحاب الفروض نصيبهم، فهو إجراء معمول به في عدد من الدول العربية (اليمن، سوريا، تونس، العراق) إسوة ما قضى به الرسول (ص) وعمل به الصحابة من بعده. ففي حديث عمرو ابن شعيب عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ورّث بِنت المُلاَعِنة من أُمّها، أي ورّثها جميع المال ولا يكون ذلك إلا بطريق الرَّدّ. ثم حديث وَاثِلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تحوز المرأة ميراث لقيطها وعتيقها والابن الذي لُوعِنت به". وجه الدلالة هنا هو: أن النبي جعل ميراث ولد الملاعنة لأمه، وهذا يقتضي أن يكون جميع ميراثه لها، ولا يكون لها ذلك إلا بالردّ. ثم ما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية فماتت أمي وبقيت الجارية فقال (ص): (وجب أجرك وعادت اليك الجارية). فرجوع الجارية كلها إليها دليل على جواز الرد وإلا فليس لها إلا النصف فرضاً، بحيث يمكن بيع الجارية وأخذ نصف ثمنها والنصف الثاني يؤول إلى العاصب. وقد ذهب عدد من الصحابة والأئمة إلى القول "بالرّدّ"، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان وابن عبّاس وابن مسعود وجابر بن عبدالله [= جابر بن يزيد] وشريح وعطاء ومجاهد وتَبِعهم في ذلك الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في أشهر الروايتين عنه. أما قول عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وجابر بن يزيد: يُرد الفائض على جميع أصحاب الفروض حتى على الزوج والزوجة.
واضح إذن، أن الذي يجهل الدين هو بنكيران وجماعته، أما مذكرة مجلس حقوق الإنسان فجاءت منسجمة مع ما قضى به الرسول (ص) وطبقه الصحابة من بعده.
بخصوص استخراج نصيب الزوجة أو الزوج من الأموال المكتسبة قبل توزيع التركة فأمرٌ طبّقه عمر بن الخطاب في قضية عامر ابن الحارث وزوجته حبيبة بنت زريق التي حكم لها بنصف الممتلكات التي تركها زوجها بعد وفاته باعتبارها شريكة له، إضافة إلى الربع كوارثة بالفرض لأنه لم يكن له أولاد. فهل كان عمر بن الخطاب شيوعيا أو علمانيا أو جاهلا للدين؟ ألم يتخذ بنكيران وحزبه من عمر بن الخطاب رمزا للعدل؟ فما يمنعهم من الاهتداء به في توزيع التركة؟ وأين هم من فقهاء سوس وابن عرضون الذين أفتوا بحق الكدّ والسعاية؟
إن البيجيدي برفضه مقترح استخراج نصيب الزوجة/ الزوج، بعد وفاة أحدهما، قبل توزيع التركة، ليس له من معنى سوى تكريس ظلم النساء وشرعنة أكل أموالهن بالباطل.
بخصوص إقرار التوارث بين الطفل وبين أبيـه البيولـوجي، فأمر قال به الأئمة والفقهاء لأنه نتيجة مباشرة لعملية إلحاق الطفل بأبيه الطبيعي تطبيقا لقوله تعالى (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله). فقد قال ابن القيم : " إثْبَاتَ النَّسَبِ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ ، وَحَقٌّ لِلْوَلَدِ ، وَحَقٌّ لِلْأَبِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ مَا بِهِ قِوَامُ مَصَالِحِهِمْ ، فَأَثْبَتَهُ الشَّرْعُ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا نِتَاجُ الْحَيَوَانِ" .
ــ وروى الدارمي في "السنن" عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى إِلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ وَأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ ، وَلَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدٌ : فَهُوَ يَرِثُهُ ".
قال المالكية: لا يُعتبر في الاستلحاق تحقق تزوّج المستلحِق (بالكسر) بالمستلحَق (بالفتح) أو تملّكه أمَّه إن كانت أمُّه أمَة. قال ابن عبد السلام: “لأنهم اعتبروا في هذا الباب (الاستلحاق) الإمكان وحده ما لم يقم دليل على كذب المُقِرّ. بل إن المالكية ذهبوا إلى القول بصحة استلحاق أحدٍ ميتا. أي يصح استلحاق أحدٍ كبيراً ولا يشترط تصديق المستلحَق على أصح الطرق في المذهب".
ــ وروى الدارمي في "السنن" عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى إِلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ وَأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ ، وَلَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدٌ : فَهُوَ يَرِثُهُ ".
قال المالكية: لا يُعتبر في الاستلحاق تحقق تزوّج المستلحِق (بالكسر) بالمستلحَق (بالفتح) أو تملّكه أمَّه إن كانت أمُّه أمَة. قال ابن عبد السلام: “لأنهم اعتبروا في هذا الباب (الاستلحاق) الإمكان وحده ما لم يقم دليل على كذب المُقِرّ. بل إن المالكية ذهبوا إلى القول بصحة استلحاق أحدٍ ميتا. أي يصح استلحاق أحدٍ كبيراً ولا يشترط تصديق المستلحَق على أصح الطرق في المذهب".
فيما يتعلق بإثبات النسب: حيث اقترح مجلس حقوق الإنسان اعتماد البصمة الوراثية لإلحاق الطفل بأبيه البيولوجي، بينما يرفض البيجيدي هذا المقترح ويعتبره " يعارض معارضة صريحة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم “الولد للفراش وللعاهر الحجر”. فالبيجيدي يستند إلى حديث يرى غالبية الأئمة والفقهاء، ومنهم ابن تيمية أنَّ حُكمَه قاصرٌ على المرأة إذا كانت فراشًا لرَجُلٍ آخَرَ(أي زوجة له)، فيبقى الولدُ مُلتحِقًا بصاحب الفراش إلَّا أَنْ يَنفِيَه باللِّعان فيُنسَب إلى أمِّه، ويكون للعاهر الحَجَرُ، أي: أنَّ الزانيَ ليس له إلَّا الخيْبةُ؛ أمَّا المرأةُ إذا لم تكن فراشًا فلا يتناولها الحديثُ؛ ويتعيَّن تسميةُ المرأةِ فراشًا ـ عند أهل اللغة والعُرف ـ بعد البناء بها؛ ولهذا ذَهَب ابنُ تيمية إلى أنَّ المرأة تُعَدُّ فراشًا بعد معرفة الدخول المحقَّق لا بمُجرَّد العقد عليها، خلافًا لأبي حنيفة .
أما عن اعتماد البصمة الوراثية في إثبات النسب: فإن البيجيدي يعارض هذا الاقتراح بحجة أنه "بمثابة إرساء نظام جديد للأسرة غير الشرعية التي لا تقوم على علاقة الزواج الشرعي والتطبيع مع العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، وهو ما يشكل تيسيرا وتشجيعا لوجود حالات واسعة من الأبناء الناتجين عن علاقات غير شرعية وهو ما يهدد استقرار المجتمع.". علما الرسول (ص) اعتمد "القيافة" لألحاق الأبناء بآبائهم البيولوجيين ولم ير في ذلك مخالفة للشرع أو "تهديدا لاستقرار المجتمع". ففي قصة ملاعنة هلال بن أمية مع امرأته، وفيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أبصروها فإن جاءت به أكحلَ العينينِ سابِغَ الأَليتينِ خَدَلَّجَ الساقينِ فهو لشريك بن سمحاءَ، فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن”.
ــ وروى ابن عيينة، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن الشعبي، عن عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم، قال: أتي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - باليمن في ثلاثة نفر، وقعوا على جارية في طهر واحد، فجاءت بولد، فجاءوا يختصمون في ولدها فقال علي لأحدهم: تطيب نفسا، وتدعه لهذين ؟ فقال : لا ، وقال للآخر مثل ذلك ، فقال : لا ، وقال للآخر مثل ذلك ، فقال : لا ، فقال : أنتم شركاء متشاكسون ، وإني أقرع بينكم ، فأيكم أصابته القرعة ألزمته الولد ، وغرمته ثلثي القيمة ، أو قال ثلثي قيمة الجارية ، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه ، وقال : ما أعلم فيها غير ما قال علي . كما استعان الرسول بالقيافة في إلحاق ولده بالتبني بأبيه البيولوجي زيد بن حارثة تنفيذا للأمر الإلهي (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله). ومعلوم أنه لا يوجد نص ديني: قرآن أو حديث، يحرّم إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي. وهذا الذي على بنكيران وحزبه وجماعته أن يعوه ويقتنعوا به؛ وإن استشكل عليهم الأمر فليستأنسوا باجتهاد العلامة أحمد الخمليشي التالي: "أنه لم يرد نص في الكتاب أو السنة الصحيحة يحرم انتساب ولد الزنا إلى أبيه، وأنه لا وجود لإجماع الأمة على ذلك الحكم. وأن سبب قول أغلب الفقه بنسب الطفل إلى أمه دون أبيه راجع إلى ثبوت البنوة بالنسبة للأم عن طريق الولادة المادية، وتعذر هذا إزاء الأب، ولو استبعد هذا السبب لكان ما ذهب إليه الفقه من التفرقة بين الأم والأب مجرد تحكم لا يقره منطق ولا مبدأ من المبادئ التي تقوم عليها أحكام الشريعة، وفي مقدمتها مبادئ المساواة في التكليف والجزاء وعدم مؤاخذة الفرد بما جناه غيره...لذا نقترح إلزام الأب بنسب ولده من الزنا إذا أثبتت البصمات الوراثية أنه ولده، ويؤمر بهذا النوع من التحليل من طرف النيابة العامة كلما وجدت قرائن كافية تبرره )وجهة نظر، الأسرة والطفل والمرأة ، أصول الفقه والفكر الفقهي .ج2 دار النشر للمعرفة. 1998 ص 100 .
واضح إذن، أن مزاعم البيجيدي في حق مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان افتراءات وتُرّهات تخالف أفعال الرسول وفتاواه، كما تخالف اجتهادات الأئمة والفقهاء، فضلا عن كونها تعارض التوجيه الملكي للجنة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة باعتماد "الاجتهاد المنفتح" في إطار مقاصد الشريعة بدل الانغلاق والتشدد، كما جاء في الرسالة الملكية:" فنحن حريصون على أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، وأن يتم الاعتماد على فضائل الاعتدال، والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية".