قد لا يُكتب لأجيال اليوم أن تُعاين عن قرب حقيقة ما كان يعتمل في قضية الصحراء بمغرب السبعينات من القرن الماضي، وهي حينئذ ترسم لحظة ولادتها في زمانية طُبعت بتجاذب دولي حاد، وحكمت على راهن المنطقة المغاربية أن تجر معها انقسامات جيوبوليتيكية عميقة لا يزال صداها حيا في الراهن المغاربي...وقد تُصرف الأنظار تحت يافطة النسيان عن مآسي وعذابات عديد من أولئك المغاربة الذين أُقبروا ردحا من الزمن ضمن أقبية الاعتقال، وضاقوا صنوفا من العذاب باسم الواجب والوطن والأرض...لكن واجب الذاكرة يستحث الهمم من أجل نقل الشهادة إلى الأجيال واعتبارها مصدرا من مصادر كتابة التاريخ الوطني المطبوع بعنف السياسة...واجبها أيضا في أن تُسهم في تعرية الحقيقة والإفصاح عن جحيم المآسي التي جرت في مخيمات تندوف وفي سجون النظام الجزائري.
مناسبة الكلام، صدور رواية للطيار المغربي علي عثمان، بعنوان "أسير حرب". تنطلق الرواية من سرد حي ومعاش عن محنة المغاربة مع سراديب السجون الجزائرية وقسوة العيش في مخيمات تندوف...بهذا الاعتبار، فهي عبارة عن شهادة حية بلسان طيار سقط أسيرا في الاعتقال، لمدة تزيد عن ست وعشرين عاما، وتنقل بين جدران المعتقلات... ووثيقة تاريخية ترصد انتقالات الزمن، بين ماض حزين وحاضر مُؤلم...الزمن في الرواية مفصلي ومهيكل لفهم لعبة السرد الذاتي، لأنه يُعلن عن لحظة توقف نبض الحياة، يقول علي عثمان: توقفت حياتي يوم اعتقالي في 24 غشت من سنة 1977.
علي عثمان ابن دوار برام بنواحي مدينة ميدلت، رأى النور يوم فاتح يناير من سنة 1947، وعايش الأحداث الكبرى التي جرت في مغرب الاستقلال. انفتح وعيه الوطني مثل أبناء جيله على حوادث كبرى مثل حرب الرمال بين المغرب والجزائر 1963...حينها كان يحلم بأن يلج المدرسة الوطنية للفلاحة، لكن أحداث 1965 التلاميذية، وما رافقها من عنف وتوتر، ستعجل باغلاق المدرسة، وستصرف اهتمامه نحو المدرسة الملكية العسكرية، ليصبح مهندس طيران...كتب لعلي عثمان أن يكون ربانا لطائرة F5، أَو لم تحمل هذه الطائرة لعنة الراحل الحسن الثاني حينما وصفها ب"الطائرة المعلونة" لحظة الانقلاب العسكري عليه في القنيطرة سنة 1971؟.
ابتدأ مشوار علي عثمان المهني كطيار مقاتل في مواجهة القبعات السود الجزائرية، في كل من بير لحلو وتيفاريتي وأمغالا، ليسقط أسيرا في جحيم الاعتقال، متنقلا بين مخيم الرابوني وسجن البليدة بالجزائر. يحكي بمرارة عن لحظة الأسر "أصيبت الطائرة بصاروخ أرض-جو، فلم تعد محركاتها قادرة على الاشتغال، وأصبح من المستحيل التحكم فيها، لم يكن أمامي سوى خيار القفز في الوقت الذي أصبحت قريبا من الأرض، لم يتملكني الذعر بما أن القوات المغربية كانت في المنطقة، وكنت أراهم أثناء نزولي بالمظلة، غير أن الريح كانت قوية، أدت بي إلى الهبوط بعيدا عن المغاربة، فضلا عن كوني أصبت بكسر في الساق، إلى حد وجدت صعوبة في التخلص من المظلة، بدأت الرصاصات تتهاطل على بعد سنتمترات مني، هنا رأيت شاحنة للبوليساريو تتجه نحوي بسرعة، فكرت حينها في الانتحار، غير أن صورة زوجتي وأبنائي منعتني من ذلك، كان الأمل بأن أراهم مرة أخرى يستحق الاعتقال...".
تتعمق الرواية في تصوير وقائع الاعتقال، وترصد خبايا النظام الجزائري في قضية الصحراء، يقول علي عثمان، "...مرة سألني ضابط عسكري جزائري: هل تعتقد بأنك تخوض حربا ضد البوليساريو، وحين أجبته بنعم، ردَّ علي بالقول: أنتم أغبياء حقا، نحن من نتحارب معكم، البوليساريو لا توجد."
في الفاتح من شتنبر من عام 2003، كتب لعلي عثمان أن يتحرر من الأسر. يقول: "...نزلت بأگادير، فوجئت بأن بلدي تطور بشكل كبير، لكن لحظات الاستمتاع توقفت، والباقي لم يكن إلا إحباطا...نجوت من الجنون بقدرة قادر، حياتي توقفت يوم 24 غشت 1977، وأصبحت أملك حرية مُرَّة، ربما ينتظر المسؤولون أن نموت مرة أخرى...".