أستطيع، منذ البداية، الإقرار بدون مدافع أن المدرسة الفرعية لأولاد بنداود التابعة لمجموعة مدارس فوزار (جماعة سيدي بطاش، إقليم بنسليمان) تعاني من شيخوخة مبكرة وتصدر عنها حشرجات الموت في زمن الدخول المدرسي برسم الموسم الدراسي الذي انطلق بالكاد.
تقع هذه المدرسة في الخلفية الغابوية لمركز سيدي بطاش. في هذه المنطقة الوعرة التضاريس، التي تتخللها الهضاب والأودية والأخاديد، لا وجود للكهرباء والطرق المعبدة. هنا، لا أثر لأي مؤسسة تابعة لإحدى الوزارات التي تتشكل منها الحكومة المغربية باستثناء مدرستين فرعيتين: الأولى هي موضوع حديثنا، بينما الثانية تابعة لم. م ابن طفيل الواقعة مركزيتها في قرية سيدي بطاش.
منذ تدشينها في بدابة السنة الدراسية 1999- 2000، استقبلت هذه المدرسة المكونة من قسمين غير مسورين عددا لا يستهان به من التلاميذ الجدد. وفي العام الموالي انضاف إلى هؤلاء عدد مماثل من الأطفال حيث أصبحت بنيتها التربوية تتكون من مستويين. وهكذا أخذت تتطور من سنة إلى أخرى حتى أصبحت تضم تلاميذ من ستة مستويات يؤطرهم أربعة معلمين. لكن سرعان ما توقف هذا النمو بحكم تقلص عدد التلاميذ بشكل تدريجي إلى أن عاد يتعدى بالكاد 20 تلميذا ما نتج عنه تكليف معلم واحد لتدريس جميع المواد المقررة في المدرسة الابتدائية المغربية لفائدة جميع المستويات المشكلة لبنيتها التراتبية.
بناء على هذه الوتيرة التراجعية، من المحتمل جدا أن لا يتجاوز عدد التلاميذ بهذه المدرسة هذا العام 15 تلميذا على اعتبار أنه لم يتم لحد الساعة تسجيل أي تلميذ جديد مع أن المنطقة لا تعدم أطفالا في سن التمدرس يمتنع آباؤهم عن تسجيلهم لدواع مختلفة منها بعد المدرسة عن المنزل وحاجة الأسرة إلى أطفالها للقيام بمساعدتها في الرعي وجلب الماء وما إلى ذلك.
في إطار الدينامية التي أطلقها مشروع مدرسة النجاح والبرنامج الاستعجالي، استفادت فرعية أولاد بنداود من إصلاح شمل ترميم الأبواب والنوافذ وتسييج الأخيرة وصباغة الجدران إلى جانب تسوير القسمين بحائط قصير ذي بوابة حديدية وبناء مرحاضين ظلا مغلقين لعدم توفر الماء الضروري استعماله بعد قضاء الحاجة. ونظرا لتقلص عدد التلاميذ - كما قلنا - تم الاستغناء عن القاعة الدراسية الأخرى مما جعلها عرضة للتخريب الذي طال حتى الملحق السكني الصغير المجاور لها. أما الغرفة المستعملة التي يدرس بها ما تبقى من التلاميذ الموزعين على المستويات الستة فقد نالت هي الأخرى حظها من عبث العابثين وتخريب المخربين بحيث تهشم أسفل بابها الذي صار غير ذي قفل ومفتوحا آناء الليل وأطراف النهار. وماذا عن ملحقها السكني؟ فرغم كونه الملجأ الوحيد لمعلم المدرسة، لم تحترم حرمته واعتاد المخربون على اقتحامه بمناسبة أية عطلة دراسية طالت أو قصرت مدتها وذلك من أجل نهب حاجيات المعلم واقتلاع التجهيزات المطبخية وإتلاف خيوط الإنارة ومصابيحها؛ علما بأن المدرسة كانت مزودة بمنظومة للطاقة الشمسية قبل أن تمتد إليها أيادي الهدر والدمار.
في بداية الموسم الدراسي 2012 - 2013، ساق الحظ العاثر إحدى المعلمات المتدربات إلى تكليفها من قبل النيابة بالعمل في هذه المدرسة لكونها آخر من التحق. لم تستطع المعلمة الجديدة الالتحاق بمقر عملها لعدم قدرتها على مواجهة وتحمل الصعاب والمحن والمخاطر الناجمة عن الالتزام بالعمل ها هنا، لاسيما وأنها متزوجة حديثا وأم لطفل رضيع، ناهيكم عن الضعف شبه الفطري الذي يعتري عموما بنات حواء عندنا والذي يتجلى عبر عدة مظاهر لعل أبرزها الخوف. ومما لاشك فيه أنه تناهى إلى علمكم، معشر القراء، ما حل بالمعلمات اللواتي افترستهن الكلاب الضالة حين انفردن بهن في الخلاء حيث لامنقذ ولا مغيث. ولولا رباطة جأش المعلم الذي تخلى لها عن طيب خاطر عن منصبه بالمدرسة المركزية لكان قد لقي حتفه بنفس الطريقة في إحدى شعاب غابة السلامنة المترامية الأطراف.
من الملاحظ أن مستوى تلاميذ هذه المدرسة متدن على العموم. ورغم تعدد المهام وكثرة المستويات واحتداد الصعوبات، لا يدخر معلم مدرسة أولاد بنداود أي جهد للرقي بمستوى تلاميذه. ولله الحمد فمجهوداته لم تذهب سدى وإنما أتت أكلها رغم عدة إكراهات ناتجة عن تعدد المستويات حد الإرباك وتشعب المهام وتعقدها وغياب التلاميذ من يوم لآخر بمبررات واهية أحيانا ومعقولة أحيانا أخرى، ناهيكم عن قساوة المحيط الغابوي الموئل الطبيعي لهؤلاء التلاميذ، فضلا عن امتناع استفادتهم من مزايا الوالدية التي تعني اجمالا متابعة ومواكبة الوالدين لمشوار طفل(ت)هما الدراسي. هل يعقل طلب ذلك من أبوين غير متعلمين؟ فاقد الشيء لا يعطيه...
للتدليل على أمية وجهالة الآباء بهذه المنطقة التي تقع في أقصى شرق هضبة بنسليمان، اسمحوا لي بأن أحكي لكم في عجالة قصة وقعت للمعلم مع أحد الآباء كان قد صادفه في بحر السنة المنصرمة وهو في طريقه إلى مدرسة أولاد بن داود. أثناء السير سويا، تجاذبا أطراف الحديث حول مواضيع شتى، إلى أن عرجا على شجون وشؤون الدراسة في مدرسة الدوار. حينذاك، أعرب المعلم لمرافقه عن أمله في تعيين معلم آخر يفترض فيه أن يقتسم معه المهام بهدف تيسير وتجويد المردودية الداخلية للمدرسة خدمة لروادها الصغار. هل تدرون يا سادتي بماذا أجابه؟ قال له بكل جدية: هذا الوضع الحالي مريح لك، فإضافة معلم آخر سوف لن تكون في صالحك لأنك سوف تضطر في النهاية للتنازل له عن نصف راتبك!!!
صباح يوم الأربعاء الأخير المعلن رسميا كيوم لانطلاق الدراسة بالمدارس الابتدائية، استقل المعلم سيارة النقل السري من سيدي بطاش إلى مكان معروف محليا باسم "البلانشات"، حيث يتفرع عن الطريق المعبدة المتجهة نحو "الخطوات" مسلك وعر ومتعرج مؤد رأسا إلى المدرسة المحتضرة بالمشي على الأقدام لانعدام أي وسيلة نقل كيفما كانت. المهم أن صاحبنا الشقي شمر عن ساقيه، إن صح التعبير، وبدأ يحسب الخطوات، وما أن قطع نصف الطريق حتى تصبب عرقا من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. واصل سيره الحثيث لطي ما تبقى من المسافة، وعندما اقترب من الإشراف على المدرسة، توقع أن يرى على بعد مرمى حجر أطفالا في انتظاره، لكن عندما لاحت له المدرسة من بعيد لم يشاهد أطفالا بل شاهد نعاجا تأكل حشائش الساحة وأخرى تسرح في مدينة الأموات المجاورة للمدرسة. منذ تلك اللحظة، لم يأت ولو تلميذ واحد من أجل استئناف دراسته، ولم يظهر ولو أب واحد لتسجيل ابنه أو ابنته برسم الموسم الدراسي الجديد...