الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: ما المقصود من "أَفَلَا تَعْقِلُونَ" في القرآن الكريم؟

أحمد الحطاب: ما المقصود من "أَفَلَا تَعْقِلُونَ" في القرآن الكريم؟ أحمد الحطاب
يحتوي القرآن الكريم على عدَّة آياتٍ كريمة تنتهي بعبارة "أفلا تعقلون". من بين هذه الآيات، أذكرُ، على سبيل المثال، ما يلي :
1. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (آل عمران، 65)
2. وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (الأنعام، 32)
3. لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (الأنبياء، 10)
4. أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (الأنبياء، 67)
5. وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (المؤمنون، 80).
وكما سبق وأسلفتُ في مقالات سابقة، ذكرتُ هذه الآيات، ليس لتفسيرها لأنني أعتبر نفسي غير مؤهل للقيام بهذا العمل. لكن ليس هناك شيءٌ يمنع كلَّ مَن أراد أن يتدبَّرَ آياتِ كتاب الله أن يحلِّلَ هذه الآيات ليستحرجَ منها ما ينفعُ نفسَه وينفع الآخرلاين. والله، سبحانه وتعالى، في كثيرٍ من آيات قرآنه الكريم، يدعو الناسَ إلى التَّدبُّر في هذه الآيات مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد، 24).
أولا، لما نبحث عن معنى فِعل "عَقِلَ" في المعاجم والقواميس، نجد أن هذا المعنى مقترِنٌ بالإدراك والفهم والدراية والمعرفة والعلم والتَّفقُّه والوعي…
ثانيا وانطلاقا من ما اتَّضحَ من معنى لفعل "عَقِلَ"، بشيءٍ من التَّمعُّن والتَّدبُّر والمنطق، هذه العبارة أو هذه الجُملة، أي "أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، هي ردٌّ من الله سبحانه وتعالى لبشرٍ لا يستعملون عقولَهم، وبالتالي، ينطقون بما ليس لهم به علمٌ ويتصرَّفون تصرُّفاً مخالِفا لِما أوصى به، جلًّ عُلاه، من تقوى وإيمان. وأكثر من هذا وذاك، لا يتأمَّلون في خلقِ الكون وما يحملُه من قدرةِ وعطمةِ خالقِه.
وما تجدر الإشارةُ إليه، في الآيات الخمس، السابقة الذكر، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يوجِّه كلامَه للمشركين أو لأقوام معينة الذين، إضافةً إلى نُطقِهم بما ليس لهم به علمٌ، لا يؤمنون بالله و وحدانيتِه. فتراهم يعبدون الأصنامَ أو أشياء أخرى من غير الله. فالله، سبحانه وتعالى، رأفةً بهم، نبَّههم بقوله لهم "أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، أي كان من الأجدر بكم أن تستعملوا عقولَكم قبل أن تنطقوا بما ليس لكم به علمُ وقبل أن تُقبلوا على أفعالٍ مخالفة لإرادة الله.
وما يُثيرُ الانتباهَ، هو أن فعلَ "تَعْقِلُونَ" مُصاغٌ في المضارع. وهذا يعني أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُخاطب هؤلاء الأقوام في حاضِرهم الذي أصبح، بالنسبة لنا ماضيا ويدعوهم أن يعملوا فيما سيُتاح لهم من حياةٍ في امستقبلهم.
وعلى ذكر المستقبل، ما لا يجب أن يغيبَ عن تدبُّرنا للآية رقم 2، أي "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (الأنعام، 32)، هو أنها، إن كانت موجَّهةً لأقوام غابرة، فهي صالحةٌ لحاضر ومستقبل البشرية. لماذا؟
لأنه، ما دام القرآن كتابَ هدايةٍ ورُشدٍ وموعظةٍ…، فإن اللهَ، سبحانه وتعالى، أوصى ويوصي عبادَه أن لا يجعلوا من الحياة الدنيا همَّهم الوحيد لأنها زائلة، أي غير دائمة. بل إنه، عزَّ وجلَّ، يدعوهم ليستعمِلوا عقولَهم ليُدركوا أن الآخرةَ دائمةٌ، أي أبدية، وهي خيرٌ من الحياة الدنيا مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (القصص،60).
وما حبا اللهُ، سبحانه وتعالى، العقلَ للبشر إلا ليستعملوه ويعقلوا به مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "تِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (العنكبوت، 43). وفي آياتٍ أخرى، يقول سبحانه وتعالى إن الذين يُدركون معانى كلامه هم أولو الألباب، أي المتدبِّرون في قرآنه مصداقا لقوله عزَّ وجلَّ : كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص، 39). وأولو الألباب (المفرد هو اللب) هم أصحاب العقول النيرة والمستنيرة. وإن شِئنا اللُّبُّ هو عقلُ العقلِ.
قد يقول قائلٌ إن أولي الألباب الذين ورد ذكرُهم في القرآن الكريم، يجب أن يكونوا من ذوي العلم (بمعناه الواسع) والمعرفة. هذا صحيح وليس فيه أدنى شك. والمدرسة، من المفروض أن تلعبَ دوراً في هذا الشأن.
لكن، ما لا يجب أن يغيبَ عن أذهاننا، وكما قال ابنُ خلدون، الإنسان ابن بيئته. وهذا يعني أن هذا الإنسانَ، وخصوصا في أيام طفولته وشبابه، يتشبَّع بقيم (القيم الأخلاقية والدينية) ومبادئ وعادات وأعراف هذه البيئة. وبمعنى آخر، الإنسانُ نِتاجُ هذه البيئة.
والبيئة التي ينشأ فيها الإنسانُ نوعان. هناك البيئة الصغيرة وهي الأسرة والبيئة الكبيرة وهي المجتمع. فإذا كانتا هاتان البيئتان صالحتين، فنِتاجُهما البشري سيكون صالحا. ولهذا، ليس من الضروري أن يكونَ أولو الألباب من ذوي العلم والمعرفة، لأن العقلَ وما تشبَّع به من بيئة النشأة هو الذي يجعل الناسَ من أولي الألباب. وهذا يعني أن كثيرا من الأميين، بحكم رزانة واستنارة عقولهم، ينتمون إلى فئة أولي الألباب.
انطلاقا من مُسلَّمة postulat "ما حبا اللهُ العقلَ للبشر إلا ليستعملوه"، هناك أسئلة تفرض نفسَها علينا، وهذان مثالان أعتبرهما أنا شخصيا أساسيين :
1. هل فعلا، عندما نقرأ القرآن، خارج الصلاة وأثناء الصلاة، نقرأه بصفتنا أولي الألباب؟
2. هل فعلا، عندما نتصرَّف في حياتنا اليومية، نستحضر ما أوصى به اللهُ سبحانه وتعالى من استعمال نيِّرٍ ومستنيرٍ لعقولنا؟ وبعبارة أخرى، هل "نَعقِلُ" كل ما يصدر عنا من أقوال وما نقوم به من أعمال؟
ما أعترف به،  أنا شخصيا، هو أن الحياةَ اليومية تطغى عليها الرتابة la routine ويطغى عليها التَّعوُّد habituation. عندها، يصبح كثير من الأقوال والأفعال تلقائية automatiques، أي غائبٌ عنها التَّدبُّرُ  التَّمعُّن.
ولهذا، أوصانا اللهُ سبحانه وتعالى أن نتدبَّرَ آياتِ القرآن الكريم، أي أن نقرأه بقدر عالى من التركيز مقرون بالتأني والتَّمهُّل.